العدد 1509 - الإثنين 23 أكتوبر 2006م الموافق 30 رمضان 1427هـ

المسيحيون... وتعايش الأقليات في المشرق العربي

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

عقد بطاركة الشرق الكاثوليك مؤتمرهم السادس عشر في دير بزمار من 16 إلى 20 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. وفي نهاية المؤتمر اصدر البطاركة توصيات تألفت من 20 فقرة تحدثت عن أوضاع المسيحيين في المشرق وخصوصاً الطائفة الكاثوليكية منهم.

البيان الختامي تضمن معلومات مخيفة عن حال المسيحيين العرب وغير العرب في منطقة قيض لها أن تعيش في ظروف مضطربة أنتجت علاقات قلقة وغير مستقرة بسبب الحروب والاحتلالات والانقلابات والتوتر الأهلي الدائم بين المجموعات الدينية التي تتكون منها بلاد الشام ومحيطها العربي والإسلامي.

المعلومات مخيفة فعلاً وهي تستدعي التفكير بالمسألة لأن ما يحصل يشكل رسالة سياسية قوية تزعزع ذاك النموذج الحضاري الذي أسسه الإسلام في تعامله التاريخي مع الآخر المختلف في سلوكه وعاداته وتقاليده. ولأن ما يحصل نقطة سلبية في دائرة أسهمت في صنع الحضارة الإنسانية المعاصرة فإن المسلمين اليوم مطالبون بقراءة الموضوع والتفكير فيه لأن الإسلام في النهاية هو المعني بها بصفته الشاهد على تحولات وليس المسئول عما يحصل.

يشير بيان البطاركة إلى معلومات تتضمن سلسلة من الأرقام مؤداها أن المسيحية في المشرق في طريقها إلى الاضمحلال إذا استمر وضع المسيحيين العرب وغير العرب على حاله اليوم. وهذا يعني أن المنطقة ستفقد في المستقبل القريب أو البعيد أحد مكوناتها الحضارية كذلك سيخسر المسلمون ميزة خاصة أعطت الإسلام في تاريخه السياسي علامة ثقافية نجحت في الصمود والاستقرار نحو 15 قرناً.

تقدم توصيات البطاركة أمثلة على حال التفريغ أو ما يمكن تسميته النزف البشري الذي تعرض له المسيحيون في القرن الماضي. في فلسطين مثلاً هناك ما يشبه الاقتلاع أو التهجير الطويل المدى للأقلية المسيحية بسبب الاحتلال الصهيوني وسياسته في تدمير أو تفكيك كل الشواهد السابقة التي تدل على تاريخ مضى أو زمن مغاير للمشروع الإسرائيلي. ويعطي التقرير صورة عامة عن تدهور حال المسيحيين هناك. فمن أصل 53 قرية مسيحية في نابلس لم تبق رعية لكنيسة واحدة. وفي القدس كان تعداد المسيحيين في الأربعينات (قبل النكبة) نحو 45 ألفاً من سكان المدينة وتراجعوا الآن إلى 5 آلاف جلهم من النازحين من القرى المسيحية. ويضيف التقرير انه من أصل كل مئة مسيحي ينال منحة للتخصص في جامعات أوروبا وأميركا يعود منهم ثلاثة فقط إلى الوطن.

وفي العراق الذي تعرض للحروب منذ ثمانينات القرن الماضي ثم إلى الحصار في التسعينات وأخيراً الاحتلال في مطلع القرن الجاري أصيبت الأقليات المسيحية بكارثة سكانية دفعت بالآلاف لطلب الهجرة أو السفر أو الإقامة في الغرب بحثاً عن فرصة عمل أو مكان آمن للاستقرار. ويشير التقرير الى ذاك النزف البشري الذي يطاول الكلدان والسريان في منطقة بلاد الرافدين. فالنزف يقارب حال التفريغ السكاني إذ هناك ما يشبه الهجرة الجماعية إلى الغرب وتحديداً الدول الاسكندنافية في شمال القارة الأوروبية. ويذكر التقرير أن 40 ألفاً من المسيحيين هاجروا من العراق في السنوات الأخيرة. ويعادل الرقم نسبة 30 في المئة من تعداد المهاجرين العراقيين وهي نسبة مخيفة قياساً بالتعداد السكاني العام.

يشير التقرير أيضاً إلى حال الأرمن الكاثوليك في المنطقة. ويركز أولاً على تلك الهجرة الجماعية الأولى التي حصلت في تركيا في العام 1915 حين تعرض المسيحيون إلى الاضطهاد في زمن جمعية «الاتحاد والترقي» الأمر الذي دفع الأرمن إلى مغادرة ديارهم إلى منطقة بلاد الشام. ونجح الأرمن في الاستقرار والتعايش والسكن في المدن والمناطق إلى جوار المسلمين فترة طويلة دامت نحو عشرة عقود حافظوا خلالها على هويتهم ولغتهم وعاداتهم وتقاليدهم. ولكن هذا الوضع تعرض للاهتزاز في العقود الثلاثة الأخيرة حين بدأ المسيحيون الأرمن (الكاثوليك) بالهجرة الثانية إلى بلاد الغرب بحثاً عن الاستقرار وفرص العمل. والمخيف في المسألة أن هذه الهجرة الارمنية من بلاد المشرق جماعية وهي تشبه تلك التي أصابت المسيحيين (الكلدان الكاثوليك) في العراق. وأخطر ما في الموضوع هو أن الأجيال المهاجرة أو النازحة بدأت تفقد خصوصيتها التي حافظت عليها خلال 15 قرناً. فالبيان يشير في توصياته إلى أن المسيحيين المشارقة (من عرب وغير عرب) يهاجرون نهائياً ولا يفكرون بالعودة وهذا ما أدى إلى تناقص نسبتهم مقارنة بالتعداد العام لسكان المنطقة. إضافة إلى ذلك أن الأجيال المسيحية المهاجرة حديثاً (العقود الثلاثة الأخيرة) أخذت تغادر خصوصيتها وثقافتها ولغتها وعاداتها وتقاليدها تسهيلاً للاندماج الكلي في مواطنهم الجديدة. فالتقرير يشير إلى أن المسيحية حافظت على وجودها واستقلت نسبياً في ثقافتها وكنيستها في دائرة حضارية عامة تتقبل الاختلاف تحت سقف إنساني وإيماني وتوحيدي مشترك لمدة 15 قرناً، والآن وبعد هذا الزمن الطويل من التعايش والتكافل أخذت «المسيحية الشرقية» أو المهاجرين من المشرق يخسرون تلك الميزة التي تمثلت في خصوصية حضارية وبدأ المسيحيون يضمحلون في مجتمعات «مسيحية» ولكنها مختلفة في تكوينها التاريخي وتعاملها مع ثقافة الآخر.

المعلومات فعلاً مخيفة والحديث عن تفريغ المشرق من مسيحييه واضمحلال المسيحيين الوافدين من الشام وبلاد الرافدين في دول الغرب يشكل ضربة موجعة للحضارة العربية/ الإسلامية، وكذلك لتلك الثقافة التي صمدت أمام التحولات مدة لا تقل عن ألفي سنة على ميلاد السيد المسيح وبدء رسالته الكونية من فلسسطين.

بيان بطاركة الشرق الكاثوليك محزن فهو يشكل في أرقامه ومعلوماته وتوصياته نكسة موجعة لكل المجموعات الأهلية التي تعايشت وتخاصمت على امتداد 15 قرناً من الحضارة العربية/ الإسلامية في بلاد الرافدين والشام. حتى في بلاد الشام أو ما تبقى منها بعد نكبة فلسطين (سورية، لبنان، والأردن) أصيب المسيحيون بذاك العارض الذي يتمثل بالهجرة الفردية المستمرة من دون توقف. فالبيان يشير إلى أن حال المسيحيين في الدول الشامية الثلاث أفضل من غيره إلا انه بدأ يشهد ذاك التناقص النسبي في تعدادهم. فقبل 25 سنة كان المسيحيون يشكلون نسبة 16,5 في المئة من المجموع العام والآن تراجعت النسبة إلى 10 في المئة فقط ولم يبق منهم في الشرق العربي سوى عشرة ملايين نسمة.

الجيد في بيان بطاركة الشرق وتوصياتهم التي صدرت بعد الانتهاء من عقد مؤتمرهم في ذاك الدير الجميل في أعالي كسروان انه لم يتهم الإسلام والمسلمين بالمسئولية. فالبطاركة اعتبروا أن سبب النزف البشري وتفريغ المنطقة من السكان طاول الجميع وأعادوا المشكلة إلى الحروب والاضطرابات السياسية والقلق من المستقبل وعدم توافر فرص العمل والحرية. وهذه المشكلات ضربت المنطقة كلها ولكن الأقليات المسيحية كانت الأكثر تضرراً منها نتيجة توافر فسحة من الحراك الاجتماعي والظروف المناسبة التي تغري الأجيال الجديدة وتشجعها على المغادرة والاضمحلال والاندماج في بيئة ثقافية مغايرة ومقطوعة الصلة عن تاريخ الكنيسة في الشرق.

بيان «بطاركة الشرق الكاثوليك» لابد من إعادة قراءة توصياته بدقة لأنه يمثل جرس إنذار ليس لطوائف محددة تعتبر جزءاً من المكونات الحضارية للمنطقة وإنما تحدياً لتاريخ طويل تعرض لانتكاسة كبرى منذ نهايات القرن التاسع عشر حتى آيامنا. فالبيان يجب التعامل معه ليس مجرد فقرات صدرت عن «بطاركة كاثوليك» وإنما هو رسالة إلى المسلمين للتفكير به وأخذه على مجمل الجد لأنه في النهاية يعني أيضاً حضارة كبرى تتعرض إلى سياسات تقويض وتهميش وتشهير من الدول العظمى ومن أنظمة لا تخجل ولا تكترث لكل المصائب التي واجهت شعوب بلاد المشرق على امتداد عقود من الزمن. فالمسئولية جماعية وما يتعرض له المسيحيون اليوم لا يستبعد أن يتعرض له المسلمون غداً

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1509 - الإثنين 23 أكتوبر 2006م الموافق 30 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً