قال لي بعضهم هل ينسجم التفصيل في كلام النبي (ص) من حيث التشريع المطلق أو التدبير المؤقت مع شهادة القرآن له بأنه «ما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى»؟ (النجم: 3 و4) فالآية تدل على أن كل ما يقوله النبي وحي واجب الاتباع على كل مسلم وفي كل زمان ومكان، فقلت له، إنني لا أفهم الملازمة هنا بين المقدمة والنتيجة فالآية الكريمة تشهد للنبي بأن كل ما يقوله صواب نابع من تسديد إلهي، وليس اجتهادا يقبل الخطأ ولكن من هذا الصواب القطعي تشريع ديني مطلق ومنه تدبير مدني مؤطر بظرفه وسياقه الذي صدر لمعالجته.
وصحيح انه قد يوقعنا هذا التفصيل في شيء من الإرباك وذلك لعدم وجود ضوابط ومقاييس واضحة لحد الآن ولذلك فقد ينفتح الباب للمتصيدين الذين يسعون الى تخفيف الشريعة - كما يزعمون - وسيرمون الكثير من الأحاديث الآمرة أو الناهية بأنها تدبيرية توصلاً الى أرخنتها وبالتالي التخلص منها نهائياً، ولكن هذا الغموض يقرر مسئولية على منظري الأصول للبحث عن الضوابط أكثر من كونه مشكلة نحاول القفز عليها، وخصوصاً أن لها شواهد في النصوص ذاتها وقد ذكرت بعضها في المقال السابق وأيضاً قد جاء في رواية عن الإمام علي (ع) أنه سئل عن سبب عدم اختضابه مع أن النبي (ص) اختضب وأمر بالخضاب فقال إن النبي إنما فعل ذلك لأن المسلمين كانوا قلة فأراد أن يكثر مظاهر الشباب فيهم واليوم قد كثر المسلمون ولا داعي لذلك، ومن الغريب حقا إنه لايزال يوجد من يصر على أن من سنن النبي الأكيدة استعمال مسواك الخشب ولعق الأيدي بعد الطعام لأن النبي كان يفعل ذلك! فإنه غفلة أو تغافل عن كونها ليست سوى الوسائل المتوافرة للتنظيف في زمن النبي ولا ظهور لها في التعبدية والثبات أصلاً، ولذلك صح القول بأن التطبيقات والتدابير في كلام وفعل المعصوم لا تعبر عن الأرقى بنحو مطلق وإنما تعبر عن الأرقى حسب ما هو المتاح والممكن في عصره فحسب.
وإذ إن من ضمن الأمثلة التي ذكرتها في المقال السابق قول النبي (ص) «من أحيا أرضاً فهي له» فلذلك رأيت من المفيد جداً أن أستعين بكلام للسيد الشهيد محمد باقر الصدر يرتبط بهذا البحث إذ قال في كتابه اقتصادنا (تحت عنوان مسئولية الدولة في الاقتصاد الإسلامي): فالمبدأ التشريعي القائل مثلا إن من عمل في أرض وأنفق عليها جهدا حتى أحياها فهو أحق بها من غيره... يعتبر في نظر الإسلام عادلاً لأن من الظلم أن يساوى بين العامل الذي أنفق على الأرض جهده وغيره ممن لم يعمل فيها شيئاً، ولكن هذا المبدأ بتطور قدرة الإنسان على الطبيعة ونموها يصبح من الممكن استغلاله ففي عصر كان يقوم إحياء الأرض فيه على الأساليب القديمة لم يكن يتاح للفرد أن يباشر عمليات الإحياء الا في مساحات صغيرة وأما بعد أن تنمو قدرة الإنسان وتتوافر لديه وسائل السيطرة على الطبيعة فيصبح بإمكان أفراد قلائل ممن تؤاتيهم الفرصة أن يحيوا مساحة هائلة من الأرض باستخدام الآلات الضخمة ويسيطروا عليها الأمر الذي يزعزع العدالة الاجتماعية ومصالح الجماعة فكان لابد للصورة التشريعية من منطقة فراغ يمكن ملؤها حسب الظروف فيسمح بالإحياء سماحاً عاماً في العصر الأول ويمنع الأفراد في العصر الثاني - منعاً تكليفياً - عن ممارسة الإحياء الا في حدود تتناسب مع أهداف الاقتصاد الإسلامي وتصوراته عن العدالة.
وبين كلامنا وكلام الشهيد اختلاف في بعض التفاصيل يدركه القارئ الحصيف ولكنهما يلتقيان في أصل المضمون خصوصا إذا تتبعنا بقية كلامه فإنه بعد صفحة واحدة من هذا الكلام ساق رحمه الله أربعة نماذج على النصوص الحكومتية التي صدرت بعنوان التدبير لا بعنوان التعبد ومن ذلك قوله: جاء في النصوص ان النبي نهى عن منع فضل الماء والكلأ فعن الإمام الصادق إنه قال «قضى رسول الله بين أهل المدينة في مشارب النخل انه لا يمنع فضل ماء وكلاء» وهذا النهي نهي تحريم كما يقتضيه لفظ النهي عرفا وإذا جمعنا الى ذلك رأي الجمهور القائل بأن منع الإنسان غيره من فضل ما يملكه من ماء وكلاء ليس من المحرمات الأصلية في الشريعة كمنع الزوجة نفقتها وشرب الخمر أمكننا أن نستنتج أن النهي من النبي صدر عنه بوصفه ولي الأمر، فهو ممارسة لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ حسب مقتضيات الظروف لأن مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة الى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية فألزمت الدولة الأفراد ببذل ما يفضل من مائهم وكلأهم للآخرين تشجيعا للثروات الزراعية والحيوانية. وقال أيضا في موضع آخر من الكتاب نفسه تحت عنوان (نظرية توزيع ما قبل الإنتاج - الأحكام): وهناك في الفقهاء من يرى ان الإحياء لا يجوز ولا يمنح حقا ما لم يكن بإذن خاص من ولي الأمر ولا يكفي الإذن الصادر من النبي في قوله: «من أعمر أرضا فهو أحق بها» لأن هذا الإذن صدر من النبي بوصفه حاكما ورئيسا للدولة الإسلامية لا باعتباره نبيا فلا يمتد مفعوله مع الزمن بل ينتهي بانتهاء حكمه.
ولو تأمل منصف في مجموع كلام الشهيد لاتضح له أن ما قررناه في المقال السابق ليس بدعة منكرة ولا هو خروج عن دائرة المسموح التفكير فيه دينيا ولكن الكثير من الناس قد يتوهم أن كل ما لم يطرق سمعه من قبل فهو باطل قطعا! ولقد قلت لبعض زملائي أيام دراستنا في الحوزة العلمية: لو قدر للشهيد أن يباحث فقهيا في مسائل المعاملات والسياسات لأصبحت لدينا اليوم نظرة للفقه المعاملاتي مختلفة جدا عما هو سائد اليوم، وإني لأظن بأن الكثير مما تصوروه، ويقترب جدا من هذه الدعوى ما قرره الشهيد الصدر أيضا في بحوثه الأصولية بأن النص الديني في المعاملات ليس تأكيدا لما كان عليه الناس في خصوص زمانه بل هو تأكيد وإمضاء للضابطة العقلائية النوعية التي تختلف تطبيقاتها بحسب الأزمان، وملخص كلامه على ما قرره السيد الهاشمي في كتاب بحوث في علم الأصول (مباحث الظن - مقدار مفاد الإمضاء للسيرة العقلائية): قد يقال إن السكوت وعدم الردع لا يدل على أكثر من إمضاء ما وقع خارجا من عمل العقلاء... ألا ان الإنصاف دلالة عدم الردع على إمضاء تمام النكتة العقلائية... ومقام المعصوم ظاهر في النظر الى النكات الكبروية التشريعية نفيا أو إثباتا.
وبناء عليه فلو أخذنا الضابطة العقلانية في قول الله «إلا أن تكون تجارة عن تراض» (النساء: 29) لوجدناها تأخذ أشكالا في الأنظمة الاقتصادية الحديثة مختلفة عما كان سائدا في عصر نزول الآية حيث نشأت معاملات جديدة لم تكن في زمن النص ولكن تلك الأشكال المتجددة تندرج أيضا في الضابطة العامة المنظورة في الآية ولا حاجة في تصحيحها لإدراجها تحت شكل قديم للمعاملة إذ إن ضابطة (التجارة عن تراض) تتساوى نسبتها الى الأنماط القديمة والمستحدثة.
ولكن الإشكالية نشأت حين اختلطت المبادئ الثابتة بالتطبيقات المتغيرة وجعلت جميعا في سلة واحدة هي (الدين الثابت في كل زمان ومكان)، وحين أكسب المتحرك سمة الثبات وارتهن المتغير بالمقدس، فلا استطاع الثبات المزعوم إيقاف المتغير بحسب طبيعته ولا هو أصبح قادرا على الحركة معه، وكانت النتيجة لذلك هي التخلف عن إصلاح الواقع والدين معا‡
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1505 - الخميس 19 أكتوبر 2006م الموافق 26 رمضان 1427هـ