العدد 1500 - السبت 14 أكتوبر 2006م الموافق 21 رمضان 1427هـ

العراق ينتظر دوره في زحمة القتل!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

على رغم مرور أكثر من ثلاثة أعوام على غزو العراق واجتياحه وتدميره، وعلى رغم تقدير مسبق لإحدى الدراسات البريطانية المنشورة مسبقاً بأن عدد العراقيين المدنيين القتلى منذ بداية الحرب بلغ المئة ألف قتيل، وتلاه تقدير لمجلة طبية بريطانية «لانسيت» لعدد القتلى العراقيين منذ بداية الحرب الذي بلغ بحسب تقديراتها نحو 655 ألف قتيل، بمعدل 2.5 في المئة من الشعب العراقي، وبمتوسط 13.3 وفاة لكل ألف عراقي حتى يونيو/ حزيران 2006.

فإن زحام هذا القتل والذبح «الرشيق»، وركام الدمار «الأنيق»، الذي كاد أن يغشي الآفاق أمام التلبية والاستيفاء ليس للاستحقاقات الديمقراطية والمؤسساتية والنهضوية، وإنما الاستحقاقات المعيشية مازالت عاجزة أو لنقل متهالكة عن الإتيان بسبب واحد من أسباب هذه الحرب، التي يصفها أحد المحللين الأميركيين بأنها سابقة تاريخية ضمن الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة، ليس على أرضها من دون شك، إذ أتت من دون سبب ومبرر حقيقي!

فلايزال البحث عن سبب واحد-ولنقل افتراضياً- مجدي ومقنع وذي صدقية هو عملية شاقة في طور التواصل الممل والبطيء، وفي أروقة العلاقات العامة والتسويق الدبلوماسي الأميركي المتدني أداءً وفاعلية بدلاً من أن يكون لدى الاستخبارات المركزية والبنتاغون، فكذبة أسلحة الدمار الشامل بهتت ولم تعد تنطلي على أحد، وكذلك ما يسمى بـ «مشروع العراق الحديث»، والذي يستهدف تصفية كل أشكال الديكتاتورية والاستبداد والوجود «البعثي» السابق بالعراق، وترسيخ الديمقراطية، الذي أتى بنتائج أكثر دماراً على النسيج الاجتماعي والوطني العراقي، وابتدع أسسا وركائز جديدة للتصنيف والتمييز أهلياً وجغرافياً.

وإن كان السبب في فشل وتخبط عملية بناء عراق ما بعد صدام، أو بشكل أكثر دقة الفشل في عملية بناء سبب وجيه لغزو العراق واستباحته، وإعادته إلى ما تحت خط الفقر المدني والحضاري، يعود بشكل مباشر إلى عوامل لا يمكن إنكارها، وساهمت في التدمير المنظم للشعب العراقي، بدءًا من سياسات وممارسات النظام العراقي البائد، ومروراً بأداء الإدارة الأميركية المتعجرفة والفاشلة في إدارة مرحلة ما بعد الحرب، بكونها وصية عليه وفق شرعة دولية طارئة، لم تكن موجودة وحاضرة حينما شنت الحرب العدوانية من دون مبرر، وبالتالي تدميره بهذا الشكل الكارثي الذي نشهده!

إن عملية تحديد وعد الضحايا وجرد سائر أشكال الدمار جراء غارة أو مداهمة أو إطلاق نار أميركي، أو عملية تفجير إرهابية تستهدف المدنيين، أو حصيلة لاقتتالات ومواجهات طائفية وحروب أهلية، هي أكثر سهولة، وهي ستشير ناحية البادئ في إطلاق النيران الكثيفة، والمتسبب الرئيسي في كل ذلك بانتشار عدوى هذه الحمى الاستراتيجية «القلاعية» في المنطقة، فيما ينذر بتداعيات إقليمية خطيرة طالما لم يتم تدارك هذا الموضوع.

ولعل الضحية الأكبر في «العراق الجديد» الذي مازال سابحاً في مغطس تعميده الجحيمي بدمائه وبنيران أبنائه ونيران الأعادي، هو العراق ذاته، ومعه الإنسانية المستباحة على آخر خلية منها، والمرمية في جميع أشكال العراء الحقوقي، وتحت أكثر من صمت وتواطؤ، وإهمال إقليمي ودولي، وإلى جانبهما اللحمة الوطنية العراقية التي احترقت، ولم يعد الـ»سوس» الديمقراطي مجدياً في إعادة نكهتها، أو حتى إضفاء نكهة أخرى جديدة مستطابة، ولو كان ذلك بغمرها وإغراقها في هذا الـ»سوس» المستورد!

هذا الأداء الأرعن والفشل الذريع في النهوض ببناء الدولة العراقية الحديثة، ربما قد يكون أدى إلى تبني مسلمة، والإيمان ببديهية من قبل النخب العربية عن فشل استيراد الديمقراطية من الخارج، وبؤس الاستقواء بالأجنبي حمَال الأجندة والمخططات، والمصالح البعيدة الصلاحية على حساب الوطن والمواطن والوطني، فأصبح واضحاً ومكشوفاً أمام العيان متحصلات فرض الديمقراطية المستوردة بخيط سير تكتيكي ميكانيكي، من دون أن يكون ذلك استنباتاً واستزراعاً ومواءمة بين جميع العناصر الوطنية والأجنبية، وملاحمة للأنسجة العضوية بين بيئتين مختلفتين.

فتبع السعار الديمقراطي عملية تدمير شاملة للعراق، إن لم تكن منظمة لدى البعض، فهي تبدو منتظمة بفعل خطوات ما يسمى بالـ «عملية السياسية» في العراق المحتل، بما أفرزته من تشريعات وأنظمة وقواعد مثيرة للجدل، في الوقت الذي لم يتمكن العراق من الإمساك بأنفاسه المتهالكة، وإيقاف نزيفه البركاني!

وباتت جراء ذلك الخشية المستفحلة لدى الكثير من الأوساط والقطاعات الشعبية العريضة، هو أن تكون الترجمة العملية القادمة لعملية التقسيم والتفتيت للبنية العراقية الوطنية هي في «الفيدرالية» الغريبة المصدرة إلى العراق بحلة فريدة وجديدة في تاريخها الاصطلاحي، لتكون بذلك أداة تجزيئية وتفتيتية لدولة مركزية، بدلاً من أن تكون وسيلة لإعادة الصوغ وتحقيق المزيد من الانسجام الرحب بين جميع أطرافه وعناصره وأشكاله التنظيمية، والإدغام الوطني لروابطه الطائفية والإثنية، كما هو الحال في تجارب الكثيرة من الدول الغربية التي كانت الفيدرالية منقذاً لها من التشتت والانقسام والضياع، لا ممهدة إليه ومبعوثة لأجله!

يأتي ذلك في الوقت الذي تم خلاله الموافقة البرلمانية العراقية على قانون تحديد وتشكيل المناطق الفيدرالية، وسط معارضة التيار الصدري وحزب الفضيلة، ومع مقاطعة من قبل جبهة التوافق للجلسة!

ويحق لقائل أن يقول إنه ليس من المصلحة الأميركية في شيء أن يكون العراق مجزأ ومقسماً وواهناً، فيما يهدد مصالحها، ويبعثر الأوراق والخرائط الآنية من أمامها. إذ ستخرج الفوضى والأزمة عن طور التحكم والإدارة الأميركية، وهو ما لا تطيقه أبداً، إلا أنه وفي المقابل يجوز لنا أن نسأل:

وهل استطاعت الإدارات الأميركية، وخصوصاً إدارة بوش الصغير، أن تحمي مصالحها وتحققها كما تريد وبحرفنة ربوبية؟ هل استطاعت أن تخرج من مآزقها في العراق؟ هل كان من المصلحة الأميركية أن يكون هنية رئيساً لوزراء فلسطين بفضل ضغوط أميركية مورست باهتياج على الرئيس الراحل عرفات للتنازل عن الكثير من صلاحياته لرئيس وزرائه، وأصلاً هي ضغوط أنشئت قبل ذلك لاستحداث هذا المنصب؟!

هل كان من المصلحة الأميركية أن يقع هذا العدد الكبير من الضحايا من الجنود الأميركيين في العراق، بعدما كان ينظر إليه على أنه مجرد نزهة شرق أوسطية عابرة؟!

هل كانت المصلحة الأميركية تقتضي أن يكون العراق مرتعاً للعنف والإرهاب، ومصدراً رئيسياً له في قنوات تجارية بينية مفتوحة في المنطقة، وأن تقع الولايات المتحدة أسيرة غبية في حال ابتزازية عويصة، محكومة بقوانين لعبة الحذق الفارسي؟!

إذاً لم يكن مطلوباً أصلاً كل هذا الفشل في إدارة الوضع، والحفاظ على مصالحها النفطية بعقلية لا تقل طيشاً ورعونة وهيجاناً «ثوارة» عن العقلية الصدامية، كما أنه لم يكن مطلوباً من السادة الفرقاء العراقيين والعرب على أن ينظروا إليها، على رغم ذاك الفشل الإداري الذريع وإدمان ارتكاب الأخطاء القاتلة، بصفتها عامل استقرار في العراق والمنطقة، وحضناَ دافئاً يلم «شتات» كل العراقيين الذين وحدتهم الإنسانية والهم والمظلومية سابقاً، وفرقتهم ومزقتهم «إنسانية ووطنية ما بعد الغزو» المصطنعة!

وبالعودة إلى تقديرات مجلة «لانسيت» البريطانية عن عدد القتلى العراقيين منذ الغزو، فإنه لم يكن مستغرباً أن تتم مجابهة تلك الدراسة بعدم اكتراث وبتسفيه معتاد من قبل الإدارة الأميركية، وهي التي لا تهتم بتقديرات ونصائح وتحذيرات المخابرات المركزية، والتي أصبح ينظر إليها من قبل غلاة المحافظين الجدد وصقور الإدارة الأميركية على أنها تركة ثقيلة، وعبء مؤسساتي متوارث، لا يجيد سوى التنظير المثالي، والبعد عن العملية والواقعية‡

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 1500 - السبت 14 أكتوبر 2006م الموافق 21 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً