على رغم كون السيد محمد حسين فضل الله رجل المفاجآت بامتياز، ومطلق الآراء الجريئة و«الانقلابية» على الكثير مما هو سائد ومألوف، وما اعتاده الناس من «مشاغبات» فكرية وفقهية وعقدية تدخل في باب اعادة «القراءة و«التأويل» للنص الديني، فإن ما تحدث به لفضائية ام. بي سي عن علاقته بايران وحزب الله كانت مفاجأة لم تكن في الحسبان، بل لم يتخيل كثيرون - ان لم يكن الكل - ان يأتي يوم يتحدث فيه السيد على هذا النحو.
في حوار الـ ام. بي. سي مع فضل الله، نقطتان مهمتان، تتعلق الاولى بعلاقته بإيران والمرجعية الدينية هناك، والثانية، بعلاقته بـ «حزب الله» وما يجري على الساحة اللبنانية، وتحديدا داخل الدائرة «الشيعية».
في النقطة الاولى، اشار فضل الله، إلى ما يمكن تسميته بـ «احتكار المرجعية داخل ايران من قبل بعض الجهات الايرانية»، وبالتالي رفضها لأية مرجعية تكون في الخارج سواء في العراق او لبنان، لذلك ستندرج مرجعية فضل الله ضمن هذه المرجعيات المرفوضة، لا بالمعنى الشخصي، او بالمعنى المعنوي، الحب والكراهية - وانما بالمفهوم السياسي والفكري لهذه المقولة.
ما يمكن تسميته بضرورة كون المرجعية «داخل ايران»، لم تكن وليدة يومها، بل كانت بوادرها منذ ايام الامام الخميني، الا ان وجود مرجعية موازية فقهيا وشعبيا كمرجعية السيد الخوئي، جعلت الفكرة متعذرة وصعبة التطبيق، الا انها وبعد رحيل السيد الخوئي، وجد الكثير من الفقهاء والسياسيين في ايران الجو مهيأ لطرح الفكرة من جديد، وخصوصا مع وجود مرجعية السيد الكلبيكاني وما امتلكته من حضور شعبي كبير داخل وخارج ايران، وبعد رحيله برزت مرجعية الشيخ الاراكي، وكلاهما من ذات طبقة الخميني والخوئي، اضف الى ذلك وجود رؤية فقهية دعمها ونظر لها مجموعة من الفقهاء في قم مثل الشيخ الفاضل اللنكراني، تذهب هذه الرؤية الى ضرورة كون المرجعية داخل ايران، لا خارجها لتصبح اكثر قوة وبسطة في اليد.
بعيدا عن كل هذا الجدل الفقهي والفكري للموضوع، فإن ما يهم فيه هو الشق السياسي، الذي تهدف من خلاله بعض التيارات والمجموعات في الداخل الايراني إلى احتكار وحصر «مراكز القوى»، لتصبح موارد هذه القوى ومقاليدها بيدها.
هذا التداخل السياسي، غذاه تعقيد حزبي عتيق، دخل في اشكالية حزبية، تتعلق بثنائية «حزب الدعوة» و«حزب الله الايراني»، او ما يمكن تسميته بمجموعات «السائرين على نهج الامام»، وهي مجموعات تنطوي على اجنحة رديكالية اقصائية، ذات تفكير ميكانيكي رتيب، قد تصل الى مستوى العنف والتصفية الجسدية في بعض الحالات، كما حدث لبعض المعارضين والصحافيين الايرانيين. هذه المجموعات الضاغطة، وما تحمله من فكر متشدد التقت افكارها رؤية فقهية شكلت لها غطاء دينيا، ورؤية سياسية لدى بعض صناع القرار، جعلت من السهل الترويج للفكرة وتعزيز رسوخيتها. في مرحلة تالية، وبعد ان طرح فضل الله مرجعيته، واصبح له «مقلدون» في مناطق مختلفة من العالم، جاء من حاول ان يلعب بكل هذه التعقيدات، مضيفا إليها المزيد من الاشكالات التي من شأنها ان تربك وتُشغل مرجعية فضل الله بمعارك هامشية وصغيرة لكنها طاحنة وقادرة على استنزاف الكثير من طاقاته. فتداخل مصالح مرجعية، تمثلت في رغبة كثير من بطانة بعض المرجعيات في التخلص من مرجعية فضل الله وتقليصها، لأنها ستشكل منافسا لها، وهذه البطانة يهمها ان تستأثر بالمرجعية المطلقة، لأن معنى هذا الاستئثار مزيد من «الاخماس»، و«المال» و«الطاعة» من قبل المقلدين، ومزيد من الحضور الشعبي في الشارع الشيعي.
التحالف والنقد
بداية التحالف كانت على هذا النحو، وكان من الضروري ان تُجمع لذلك كثير من الهمم والقضايا التي تحقق هدفهم، ولم يكن افضل من ان يُضرب على وتر «العقيدة»، كونها تلامس مشاعر الناس وتمثل خطا احمر لا يمكن الاقتراب منه والمساس به. فكانت عملية «النبش» و«التنقيب» و«القراءة المضمرة المستبقة» لكتابات ومقولات فضل الله، لتكون المحصلة النهائية فتاوى بـ «التخوين» و«التضليل» و«ضعف العقيدة» شكلت نواة ما بات يعرف بـ «السلفية الشيعية»، وهي سلفية اقصائية عقديا، تقوم على علاقة عمياء بين «الشيخ والمريد» تحركها مصالح مبطنة من جهة، وجهل مركب من جهة اخرى.
هذه «السلفية الشيعية»، بدأت تتشكل وتنتظم اكثر ووجدت من موضوعة فضل الله حقلا خصبا لها تعيد من خلاله انتاج افكارها. وكان لمحاباة ومصالح بعض الاطراف الايرانية وسكوت مرجعيات دينية عما حدث خوف «ان تكون فتنة» مغذيا اكبر لهذا التطرف، ما جعله الآن اكثر اشكالية وأصلب عودا، في الوقت الذي كان بالامكان احتواؤه في بداياته، وهو الامر الذي لم يحدث.
هذه الاشكالية، لم تقتصر على الحوزة في قم وبعض اطرافها، بل امتدت الى الشارع الشيعي في الخليج ولبنان وكثير من بلدان العالم، وما جعلها اوسع انتشارا، ان اجهزة المخابرات وجدت فيها مادة دسمة تستطيع من خلالها ان تشغل الساحة الاسلامية وتغتال فضل الله معنويا بعد ان فشلت في تصفيته جسديا.
على المستوى الثاني، فيما يتعلق بلبنان والعلاقة بـ «حزب الله»، ينطبق جزء كبير من المشهد الايراني على المشهد اللبناني، فهنالك جناح داخل «حزب الله» يبدي تعصبا لمرجعية آية الله خامنئي، ولا يقبل بأية مرجعية سواها، وخصوصا مرجعية فضل الله كونها في داخل لبنان، اضافة الى وجود عدد من مناصري الحزب او بعض المنتمين إليه يقفون من فضل الله موقفا عقديا سلبيا، ويمارس جزء آخر توزيع المنشورات والفتاوى التي تصدر من بعض الاطراف في قم - آية الله التبريزي وحاشيته - ضد فضل الله.
ان خطأ ايران، انها لم تقدر حساباتها بشكل جيد، وخافت من ان يسبب تحركها ضد بعض الاطراف في قم فتنة في الحوزة، وتعاملت مع الموضوع من دون حزم، فيما كان من الصحيح ان يغلق ملف «التضليل والتفسيق» منذ بداياته. هذا التعامل يطرح سؤالا عن مدى صدق النوايا لدى بعض المسئولين الايرانيين تجاه فضل الله، وهل صحيح ان التدخل في الموضوع كان من شأنه ان يسبب فتنة؟. ربما يمكن القول ان مقولة «الفتنة» تتضمن كثير مبالغة، كون ايران تعاملت بحزم مع مرجعيات سابقة، اقوى من مرجعية آية الله التبريزي التي تقود الحملة ضد فضل الله. فالراحل آية الله شريعة مداري، كان من الطبقة الاولى ومع هذا تعامل معه النظام بحزم، وكذلك آيات الله: حسن القمي، وصادق الروحاني، ومحمد علي منتظري... مع ملاحظة ان آية الله تبريزي، ليس له حضور الاسماء السابقة، كما ان الحوار واحتواء المسألة معه كان ممكنا وبشكل هادئ وودي.
حزب الله
في لبنان، كان لوجود السيد حسن نصرالله والشيخ نعيم قاسم دور في عدم زج «حزب الله» باعتباره فصيلا سياسيا في التصادم مع فضل الله، لكن التنظيم الذي يمنع محاربيه من حمل السلاح، ويحرر الجنوب من دون ضربة كفٍ واحدة لعناصر لحد وأهالي المنطقة هناك، بإمكانه ان يمنع بعض المنضوين تحته وبعض محازبيه من توزيع المنشورات واطلاق المواقف السلبية ضد فضل الله، الا اذا كان هناك ما شبه لعبة «الجزرة والعصا»، و«يد تصافح واخرى تصفع».
على رغم كل هذه التعقيدات السابقة، كان فضل الله طوال الفترة السابقة ايجابيا في مواقفه، ومتزنا، بل ومبادرا اكثر، ولم يحاول ان يتناول اية جهة بالتنكيل او المثل. لكنه هذه المرة وعلى شاشة ام. بي. سي خرج عما اعتاد عليه، وتخطى «الخط الاحمر» بجرأة وصراحة. والسؤال: ما السبب الذي جعل فضل الله يقوم بذلك، ولماذا الآن؟ للاجابة عن ذلك يمكن وضع الاحتمالات الآتية:
1- ان فضل الله ليس خارج المنظومة «البشرية» وهو انسان له طاقته على التحمل والصبر. وما يواجهه من حملات التشهير والتفسيق، ربما افقدته صبره وجعلته يخرج عن مألوفة، لكن هذا الرأي يفقد رجاحته، كون الحملات كانت اشد في فترات سابقة، وهو اعتاد عليها، ويمتلك موقفا بعدم الدخول فيها وتصعيدها.
2- قرب ضرب «العراق» والاطاحة بنظام صدام، وبالتالي عودة وهج المرجعية الى مدينة «النجف»، وفضل الله حاول ان يستبق الحدث، ويرجح من كفة النجف قبالة قم، وخصوصا انه يرى في قم كثيرا من السلبيات التي ربما لا تكون موجودة في النجف. هذا الرأي ايضا لا يمكن التعويل عليه، كون العراق فضلا عن النجف سيحتاج الى فترة طويلة كي يتعافى، هذا اذا قدر له ان يستقر، واذا لم تندلع نزاعات داخلية واقليمية.
3- قد يكون هذا التصريح محاولة لوضح حد لما يجري، وبالون «اختبار» وجرس «انذار» للايرانيين و«حزب الله» كون المسألة تعدت المعقول والمسموح به، وجرت كثيرا من التعقيدات. وآن الاوان لأن يتدخل الطرفان لحلها وإلا فسيفقدان سندا لهما يتمثل في مرجعيته وشخصه، مخيرا بينه وبين المناوئين له من جهة ثانية.
4- وجهة النظر الرابعة، تتداخل مع سابقتها، وترتكز على محاولة فضل الله ان يقرع الجرس وبقوة، وان يقول رأيه وبصوت مرتفع، انطلاقا من مبدأ «الصدمة» الذي يؤمن به. ويريد فضل الله من ذلك ان يحذر من غلواء «السلفية الشيعية» ومن يوجهها من منتفعين وأميين، لأنها بلغت حدا لا يمكن السكوت عنه، وانه لن يكون الضحية لوحده، بل جميع المتنورين والمصلحين، وهو الامر الذي اذا حصل سيكون انتكاسة للفكر الشيعي.
ربما لام الكثير فضل الله على تصريحاته، كونه صبر طوال هذه المدة، لكن الاهم هو ان تتعامل الاطراف المعنية بجدية مع هذه التصريحات، لأن مزيدا من التداعي لن يكون في مصلحة الجميع
العدد 150 - الأحد 02 فبراير 2003م الموافق 30 ذي القعدة 1423هـ