لا يختلف مسلمان في أن للقرآن منزلةً مقدسةً في نفوس المسلمين وعقولهم فهو خطاب الله لعباده الذي أوحاه إلى قلب خاتم الأنبياء وأحبِّهم إلى الله تعالى محمد (ص)، كما لا يختلف المسلمون في أن لهذا القرآن دوراً وظيفياًّ ومهمةً مقدسةً لا تبتعد عن ما أوكل إلى الأنبياء (ع) القيام به عبر التاريخ، وهو صنع (الإنسان الكامل)، قال تعالى: «الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» (إبراهيم:1).
ولا نعني بهذا (الكمال) التنمية المادية على مستوى صحته ومعيشته الفردية، أو على مستوى النهوض السياسي والاجتماعي والاقتصادي... بما يمكن تصنيفه، في المنطق القرآني ضمن عالم (الدنيا)، بل هو يتجاوز ذلك إلى تكميل الإنسان في الدارين (الدنيا والآخرة) معاً. وذلك يتوقف على صنعه على المستوى الإنساني، عبر تقويم عقله ونفسيته، ليستقيم تفكيره باختيار المنهج الأفضل في تفسير الوجود والكون، والأسلوب الأفضل للتعامل مع مفرداتهما، سواء في ذلك الخالق والمخلوق أم الذات والآخرأم القريب والبعيد... لذلك نجد هذه الشمولية في التفسير الفلسفي للوجود في ثنايا القرآن الكريم بالتأكيد على أن «الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» (الزمر:62).
ويثار سؤال: ما هو السر في الاهتمام الكبير قرآنيًّا بهذه الأمور التي قد يُظن أنها ثانوية، مادامت لا ترتبط بحياة الإنسان اليومية ؟! في الجواب على ذلك نقول: إن القرآن الكريم لم يعتمد في معالجاته ومقارباته للإشكالات الوقوف عند بعدها السطحي، لأن ذلك ليس من شأنه أن يبلور ما تركن إليه النفس الإنسانية العطشى، دائماً، للحول الجذرية، إلا إذا ألهيناها وأشغلناها بالالتفاف والمناورة، الأمر الذي يجعل الإنسان مطمئناً ظاهراً، ولكنه في أشد حالات القلق إذا خلا بنفسه. بل إن المنهج القرآني اعتمد الغوص في جذور الإشكالات والمشكلات، وحض الإنسان على ألا يكون ساذجاً في قراءته لظواهر الوجود، بدءًا من ذاته وانتهاء بخالقه، مروراً بكل مخلوق مادي وغير مادي، قال تعالى: «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ» (الأنبياء:24)، وقال تعالى: «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ» (الرعد:16).
مقدمات ومبادئ في صنع الإنسان:
يمكن القول إن الرؤية القرآنية لصناعة (الإنسان) تقوم على أساس تقسيم الوجود إلى عالمين: الشهادة، والغيب. وجعل ملاك الرشد في الإنسان ألا يقصر رؤيته وقناعاته بالتعامل مع عالم (الشهادة)، بل اشترط إلى ذلك شقاًّ آخر «يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» (البقرة:3). وعلى أساس أن ثمة واقعياتٍ لا يمكن تجاوزها قام عليها البرهان والوجدان «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» (الأنعام:91)، وأن النفس الإنسانية تعتريها تقلبات بين الرغبة في السمو والاستجابة لدواعي الخلود إلى الأرض واتباع الهوى. لذلك جاءت المعالجات، كما أشرنا، جذرية. ولنسق مثالاً على ذلك تتحدد من خلاله مقدمات ومبادئ أساسية في هذه الرؤية المنهجية، ضمن شُعب: الشعبة الأولى: الألوهية والربوبية.
إن المنطق القرآني يؤكد حقيقة فلسفية في رؤيته الكونية، تتمثل في أن هذا العالم، بكل ما فيه ومن فيه، مخلوق ومربوب، وأن من لا يسلم بهذه الحقيقة هو في خطأ فاحش ضل طريق الواقع، لن يؤدي به (ضلاله) إلى بر الأمان، قال تعالى: «ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» (يونس:32).
الشعبة الثانية: الإنسان المكلف
ونعني بها أن من لوازم التسليم بالربوبية والألوهية بمنطق الحاكم والمحكوم، من جهة، والقصور والكمال من جهة ثانية، إذ إن الله إلهٌ وربٌّ، فهو حاكم وكامل، والإنسان مخلوقٌ ومربوبٌ، فهو محكوم وقاصر. وبالتالي فإن القانون (الشريعة) يحكمه، من دون أن يشعر أن هذا القانون يمارس عليه فوقية لا تقوم على أساس، كما يفترضه واقع الناس إذا تسلط حاكم بالقوة والقهر والغلبة، وفرض قانونه الخاص.
وهذا القانون يجعل الإنسان (مكلَّفاً)، عليه سلسلة من (الالتزامات) تجاه خالقه، وتجاه نفسه، وتجاه الآخرين. وأنه ليس في عنقه (بيعة) لغير الله على حساب بيعته (التكوينية) والتزاماته (التشريعية) أمام الله سبحانه، فالتعبد والتسليم يجب أن يكونا خالصين ونقيين لله وحده «وإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ» (البقرة:163).
لذلك جاء التوجيه الرباني بإخلاص العبادة والتعبد لله تعالى، قال تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» (البينة:5).
والتوجيه بأن هذا التكليف وامتثاله سيظل دائماً تحت الرقابة الإلهية التي من شأنها حفظ الإنسان على خط الاستقامة، قال تعالى:»وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (التوبة:105).
الشعبة الثالثة: الدنيا ممر لا مقر. وفي هذه الشعبة من الرؤية تم التأكيد على تصحيح الحسابات في التعامل مع الواقع، فلا مجال للشطط فيها، لأن الخطأ ستكون له عواقب كارثية، إذ تتوجه البوصلة إلى جهة غير الجهة التي يسير الإنسان فيها. فعالم (الدنيا) في هذه الرؤية محطة متواضعة في مقابل المشوار الممتد الذي يطويه الإنسان، لذلك فإن من الواجب أن يسمو الإنسان إلى مستوى الرشد اللازم ليقرأ الواقع كما هو، لا كما يحب، قال تعالى:»زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ» (البقرة:212).
الشعبة الرابعة: الناس فريقان صالح وغير صالح. وفي هذه الشعبة يؤكد القرآن أن معالم هذه الرؤية مهما بلغت من الوضوح، ومهما آمن الناس بها، فإنهم ليسوا سواء في تطبيقها على الواقع.
فعلى مستوى الإيمان بالرؤية وعدم الإيمان بها قال تعالى:»وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ» (البقرة:165)، ليقرر أن الفريق الأول يتصف بالعمى في بصيرته في مقابل البصير، قال تعالى:»وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ» (غافر:58).
وعلى مستوى التجسيد فـ «قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ» (سـبأ:13)، «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً» (الجمعة:11).
الشعبة الخامسة: القرآن دستور هداية. وفي هذه الشعبة تم التأكيد على أن القرآن الكريم هو الكتاب الأفضل لإصلاح الإنسان وتكميله «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» (الإسراء:9)، فنتائجه مضمونة بشهادة الله سبحانه، ليُلحق به حقيقةً لا تقل أهمية، تتمثل في: أن على الإنسان دوراً في تفعيل الدور القرآني في مجال (الإصلاح) قال تعالى بعد ذلك:»وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً» (الإسراء:9)، فالقرآن نظرية ورؤية، وتطبيقها يقع على عاتق المؤمن من خلال تبني الرؤية وتجسيدها بعمل (الصالحات)
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حسن النمر"العدد 1498 - الخميس 12 أكتوبر 2006م الموافق 19 رمضان 1427هـ