«الجنة الآن» الذي يعرض حالياً في سينما السيف من الأفلام التي تثير الجدل لا بسبب الخلاف على المسألة الفنية بل لطرحه نقطة خلافية تتصل بذاك الاسلوب في النضال ومواجهة الاحتلال الصهيوني. والشريط السينمائي الذي يروي قصة داخلية عن الموضوع يحاول قدر الامكان التعامل بحذر مع هذه المسألة التي تختلف عليها الفصائل الفلسطينية والكثير من المثقفين العرب.
هناك انقسام حتى الآن على قراءة ابعاد العمليات الاستشهادية. فهل هذه الأعمال شرعية ومشروعة أو مخالفة للدين الإسلامي؟ وهل الإسلام يشجع على قتل الروح من أجل الدفاع عن قضية عادلة؟ وهل الإسلام يبرر قتل الأبرياء إذا كان الموت مصادفة وصنع من أجل الدفاع عن مبدأ أعلى؟
هذا النقاش يطرحه »الجنة الآن« باسلوب حواري ومن خلال سرد المسألة في إطار درامي بسيط نجح في كسب نقاد السينما في الغرب.
المعلقون الغربيون وجدوا في الفيلم خطوة فنية رائعة ونال إعجاب الكثير من المهتمين بشئون »الشرق الأوسط« الأمر الذي اعطاه فرصة لحصد جوائز عالمية وصولاً إلى ترشيحه لنيل اوسكار افضل فيلم أجنبي. وحين طرح اسم الفيلم لنيل جائزة أوسكار قامت حملة إعلامية ضده وبدأت »إسرائيل« تضغط ضد اللجنة وأخذت بشن هجوم مضاد عليه لمنع أخذ هذا الوسام الفني بذريعة عدم توريط هوليوود في تشجيع أو الدعاية لشريط سينمائي يتعامل بهدوء وموضوعية مع مسألة خطيرة وحساسة تتصل بالأمن الإسرائيلي.
وبسبب هذه الحملة السلبية والضغوط الاسرائيلية تردد النقاد وفشل الفيلم في أخذ تلك الجائزة. إلا أن الضجة التي أثيرت بشأن موضوعه كانت كافية لانجاح الشريط السينمائي تجارياً وحضور الناس عروضه بقصد الفضول والاطلاع على خلفيات مسألة غير مفهومة بالنسبة الى العقل الغربي. فالأوروبي لا يفهم كيف يقدم انسان على الانتحار/ الاستشهاد من أجل قضية أو مبدأ؟ كذلك لايفهم ملابسات هذه المسألة وكيف تحصل؟ وما هي الدوافع التي تشجع الشباب المسلم وفي مقتبل العمر على ارتكاب مثل هذه الأفعال؟
فهل الأسباب اجتماعية أم مجرد حقد على الآخرين، أم كره، انتقام، ثأر، أو يأس من الحياة، أو لأسباب تربية أسرية/ دينية أو وسيلة للتخلص من ثقل الدنيا ومتطلباتها وقساوة عيشها وانعدام الطرق السوية للتعامل معها، أم هي مسألة جينات تخلق مع الجنين وتنمو معه... أو إلى آخر القصص والتحليلات؟
كل هذه الأسئلة التي يطرحها الفيلم مباشرة أو مداورة في حوارات اسهمت الرقابة في تقطيع اجزاء منها جذبت المشاهدين لمعرفة موقف الشريط السينمائي من موضوع خطير وحساس لايزال النقاش الحامي يدور حوله.
إلا أن »الجنة الآن« أرقى فنيا من هذا الاستعراض الايديولوجي. فهو أقرب إلى الحكاية الواقعية البسيطة التي تسرد مسألة دقيقة من دون افتعال أو ادعاءات أو عواطف أو خطب حماسية. ولعل تناول الموضوع بهذه الطريقة المتواضعة والراقية رفع من قيمة الفيلم في نظر نقاد السينما في العالم واعطوه درجات عالية في التقدير و التقييم.
قصة الفيلم تتحدث عن شابين طلب منهما القيام بعمليتين استشهاديتين في تل ابيب رداً على قتل قوات الاحتلال احد قادة التنظيم. جاء الطلب سريعاً وتم الاختيار بسب تسجيل اسميهما قبل سنتين في لائحة المستعدين لتنفيذ عمليات استشهادية عند الحاجة اليهما.
المسألة اذا بسيطة. من يريد الشهادة يسجل اسمه وينتظر دوره بسبب التنافس على هذا الحق. هذه نقطة اولى. الثانية ان الشابين يعيشان حياة بسيطة في مخيم ويعملان سوياً وبأجور بخسة في محل لتصليح السيارات. فهما لا يتميزان بسحنة معينة وخصائص بدنية مطلوبة او عيون شريرة. الشابان وسيمان وفي مقتبل العمر ويعيشان حياة عادية في مدينة نابلس التي تعاني من الاحتلال والحصار والفقر وانعدام مجالات العيش الهادئ. النقطة الثالثة تتعلق بشبكة علاقات الشابين. فهما يقضيان وقتهما مع الاصدقاء او يدخنان الشيشة او يسهران مع اصحاب الحي وكذلك لهما علاقة من بعيد بقيادة التنظيم التي تفكر وتخطط وتدرب وتختار المواعيد وتقوم بالاتصالات وكل الحاجات المطلوبة لا نجاح مثل هذا النوع من العمل العسكري الميداني.
اذاً لا وجود للشر والاشرار وكل تلك الخلفيات التي تحاول الدعاية الصهيونية اختلاقها لتشويه سمعة هؤلاء. فالمسألة لاعلاقة لها بكثرة التدين او بالجينات او بالجنين والولادات... انها موضوع احتلال انغلاق الابواب امام الفصائل للاستمرار في النضال او مواجهة احتلال يملك كل وسائل القتل مقابل قوى لا تملك القدرات العادية للدفاع عن النفس.
الموضوع اذاً ليس معقداً. لذلك لجأ مخرج الفيلم إلى تبسيط الشخصيات ومن دون محاولة للتضخيم اوالتفخيم. فهناك فلسطينية ابنة شهيد تعمل مع الصليب الأحمر وعاشت في فرنسا والمغرب وعادت إلى بلادها لمساعدة شعبها في الأعمال الخيرية وابتكار وسائل سلمية للدفاع عن حقوق الناس. وهناك الأم الفسطينية والدة احد الشباب وزوجة »عميل« تمت تصفيته وعاش ابنه عقدة الوالد فاراد الاستشهاد لتطهير سمعة العائلة في المخيم والمدينة. وهناك العقل المدبر (التنظيم) الذي يخطط ويحدد ويؤقت ويختار العناصر ويدربهم على تنفيذ العمليات. وأخيراً هناك مشروع الشهيد وهو عادة يتبرع للقيام بالمهمة عن قناعة ومن دون اكراه.
شخصيات الفيلم قليلة ولكنها كافية لتقديم لوحة عامة عن مسألة مثيرة للجدل. ولأن النقطة خطيرة وحساسة نجح مخرج »الجنة الآن« التعامل معها ببساطة وهدوء ومن دون افتعال خطابات ايديولوجية. وهذا النوع من الإدارة الذكية شكل نقطة قوة للفيلم وكان السبب وراء نجاحه واحترام النقاد له.
قصة الفيلم تدور ضمن مهلة زمنية لا تتعدى اليوم. والمخرج حاول قدر الامكان تقديم فكرة موجزة عن الساعات الـ 24 الأخيرة من حياة الشهيد. وتعمد المخرج، وهنا نقطة قوة الفيلم اللجوء الى الكوميديا لابعاد المشاهد الغربي عن عقدة الخوف والفزع أو القرف. فهؤلاء الناس بسطاء ولا يقصدون الشر وحياتهم عادية ويمرحون ويحبون ويعملون... انهم بشر لا وحوش.
أجمل مشاهد الفيلم هي تلك المفارقات المضحكة التي تحصل وخصوصاً لحظة تصوير »الوصية« بالفيديو. وكذلك حين يبدأ قادة التنظيم أكل سندويشات والدة »مشروع« الشهيد في لحظة وقوفه امام الكاميرا لتصوير اللقطات الأخيرة من حياته. المفارقات كانت ذكية ومضحكة واسهمت كثيراً في تقريب صورة هؤلاء من ذهنية الأوروبي وربما التعاطف مع استعدادهم للتضحية من أجل قضية. ولعل هذه المفارقات الذكية كانت السبب وراء تحرك حكومة تل ابيب والمطالبة بعدم تقديم جائزة أوسكار لفيلم »الجنة الآن«
العدد 1496 - الثلثاء 10 أكتوبر 2006م الموافق 17 رمضان 1427هـ