لدى الفقهاء فتاوى مختلفة فيما يرجع إلى النظام الحقوقي للأسرة. وهذه الفتاوى تعتمد بشكل مسلم على فرضيات وآراء مسبقة وعلى ما ينتظره هؤلاء من الأحكام الدينية.
نعم لا بد من الإشارة إلى أن هذه الفرضيات المسبقة لا تختص بالفقهاء، بل يمكن لنا عموماً تقسيم أصحاب الرأي في جميع التشريعات الإنسانية سواء على مستوى نظام الأسرة أو النظام السياسي أو النظام الاقتصادي إلى فئتين:الفئة الأولى: وهي فئة تسعى إلى اعتبار هذا النظام هو النظام الطبيعي، أي أن أساس هذا النظام هو نظام الخلقة بحسب تعبيرهم. ويرى هؤلاء أن للأسرة نظامها الطبيعي كما أن تقسيم الوظائف داخل الأسرة وخارجها يأخذ شكله على أساس هذا النظام الطبيعي، وفي الحقيقة لا بد وأن تكون جميع الحقوق المعطاة للرجل والمرأة أو المسلوبة عنهما تابعة لهذا النظام الطبيعي. وهذا النمط من التفكير لا يختصّ بدائرة الأسرة بل ينتقل إلى الدوائر الأخرى، فمثلاً في دائرة السياسة يتحدّث أصحاب الفكر السياسي عن هذا النظام فيرون النظام السياسي الصحيح هو النظام الذي يأخذ فيه كلّ فرد مكانه الطبيعي. ويشبّه هؤلاء النظام السياسي بالنظام الحياتي الذي يوزع فيه العمل بين الأعضاء، ولا بد لكل واحد أن يقوم بوظيفته الخاصة به حتى يتمكن العنصر الحي من الاستمرار بالحياة. وعليه يخلصون إلى نتيجة وهي أي فئة من المجتمع هي بمنزلة القلب لهذا النظام السياسي وأيها بمنزلة الرأس أو اليد أو القدم؟ وقس على هذا. ويتبنى بعض فلاسفة المسلمين هذا الرأي كجلال الدين الدواني والخواجة نصير الطوسي، فيرى هؤلاء أن للمجتمع والأسرة بناؤهما الطبيعي الذي لا بد لنا من اتّباعه، ويعلم هؤلاء أن في التاريخ أنظمة متعدّدة للأسرة ولكنهم يذهبون إلى وجود نظام واحد طبيعي وصحيح لا بد أن يسير المجتمع على أساسه. وبهذا سيتناغم النظام الأسري مع سائر البناءات الاجتماعية في عالم الخلقة، وعلى هذا الاساس ستكون الأشكال الأخرى من العلاقة بين الرجل والمرأة والنظام الأسري انحرافاً عن النظام الطبيعي للأسرة.
لقد تبنى الكثيرون هذا النمط من التفكير، ويعتقد القائلون به بأن حقوق الرجل والمرأة وواجباتهما لا بد وأن تتلاءم مع هذا النظام الطبيعي. كما يرى هؤلاء في نظام الأسرة الأساسي لأي نظام حياتي اجتماعي، ولذا يدعي هؤلاء أن سائر الأنظمة، أي الانظمة السياسية، الاقتصادية وغيرها لا بد وأن تكون متطابقةً مع النظام الأسروي. مقابل هذا النمط هناك نمط آخر من التفكير لم يكن له رواج في السابق، ولكن الكثيرون في العصر الحاضر يتبنّونه. وعلى أساس هذا النمط الجديد من التفكير لا فائدة في البحث عن نظام طبيعي وإنساني في الحياة الاجتماعية، وضمن ذلك البحث عن نظام طبيعي للأسرة مبنيّ على البناء الجسمي والنفسي للرجل والمرأة. وما يقام من أدلة لإثبات وجود مثل هذا النظام لا يكفي للإقناع. فنحن لا يمكننا الحديث عن أنظمة إنسانية ثابتة سواء في السياسة أو الاقتصاد أو في الأسرة. فأسئلة مثل هل الشكل الفلاني المعين للأسرة هو أفضل أو أحد الأنواع المتصوّرة لتنظيم العلاقات بين الرجل والمرأة؟ على أي أساس ينبغي تنظيم حقوق المرأة والرجل؟
إن هذه الأسئلة لها أجوبة مختلفة في العصور المختلفة. وعلى أي حال يملك أصحاب هذا النمط من التفكير نوعاً من النظرة التاريخية لمسألة نظام الأسرة وأصل العلاقة بين الرجل والمرأة. ويعتقد هؤلاء بأن الحديث عن أي نوع من الأشكال المتنوعة للحياة الاجتماعية والأسرية لا بد وأن يتم في كل عصر وأن يتم السعي إلى فهم أيّ نوع من النظام في عصر معين يمكن أن يكون هو أساس الحياة المشتركة، وما هي الحقوق وأي نوع من توزيع العمل يكون قابلاً للتبنيّ وبعبارة أخرى يكون عادلاً (إن كانت العدالة هي المعيار النهائي للحكم) إذاً هناك نوعين من النظر فيما يتعلّق بالنظام الاجتماعي وضمن ذلك النظام الأسري. وكما ذكرنا فإن النوع الثاني من التفكير يتبدل إلى تفكير فعال عندما يتم النظر إلى الحياة الإنسانية بنظرة تاريخية بشكل أكثر. والآن يأتي السؤال بأن نظرة الفقهاء إلى الأسرة بأي نحو تتمّ؟ وما هي الفرضيات المسبقة التي تم على أساسها الذهاب إلى استنطاق الكتاب والسنة والقيام بعملية الاجتهاد والاستنباط. إن أبحاث الفقهاء تدل على أنهم يتبنون وجود نظام طبيعي للأسرة.
ولا يلزمنا التوغّل بعيداً، إذ يكفي النظر في آثار بعض المفكرين المتأخرين لنجد الصورة نفسها للعلاقة بين الرجل والمرأة التي كانت عند القدماء. فمثلاً أمهات ما ذكره المرحوم المطهري في كتاب نظام حقوق المرأة في الاسلام وما صوّره من النظام الطبيعي متّحد مع التصوير الموجود لدى القدماء.
بشكل مجمل، يمكن لنا أن نقول إن القدماء كانوا ينظرون إلى المرأة كموجود وظيفته في الدرجة الأولى الحمل والولادة لحفظ النسل الإنساني. وفي الواقع فإن الكثير من الحقوق المعطاة للمرأة أو المسلوبة منها مبني على أساس هذه النظرة. وان الأسرة هي الأساس لقيام جميع الأنشطة الاجتماعية. فيما ينظر هؤلاء إلى الرجل كموجود صانع للحضارة، ومدير للمجتمع وعلى عاتقه تقع وظيفة القيام بالأعمال الكبرى ورقي الحياة الإنسانية. في المقابل، تكون وظيفة المرأة حفظ هذه المؤسسة التي تعطي الرجل القدرة على القيام بهذه الأعمال الاجتماعية الكبرى، لأن هذه المؤسسة إن لم تكن فلن يوجد المجتمع حتى يتمّ السعي من قبل أفراده إلى بناء الحضارة، والصناعة، والعلم والفلسفة. ولم تكن في ذهن هؤلاء أبداً فكرة أن تقوم المرأة بالخروج من إطار الأسرة لتجد دوراً لها في المجتمع. وبحسب الواقع فإن هذا التعريف لدور المرأة كان يتطابق مع البناء السياسي الاجتماعي للمجتمع آنذاك. فلم تكن المرأة شريكة حياة للرجل، بل كانت وظيفتها التخفيف من ضغوط ومشكلات الحياة الإنسانية والسير بالحياة لتوفير الظروف لرجل الأسرة للقيام بالدور الكبير الملقى عليه.
المرأة انسان الدرجة الثانية
لو أردنا تحليل دور المرأة في السابق، فسنواجه مسائل متعددة تبعث على الأسف. فقد كان الإفراط في بعض المجتمعات يصل إلى حد اعتبار المرأة موجوداً لا يتمتّع بالروح الإنسانية. وبعض من كان لديه رؤية إنسانية كان يذهب إلى التفكيك فيعتبر أن الرجل والمرأة كليهما إنسان ولكن عندما يصل الأمر إلى الحديث عن الحقوق وتقسيم الواجبات تتغير اللغة لتصبح الحقوق مبنية على أساس البناء الطبيعي للرجال والنساء. ونتيجة ذلك سواء أكانت مقصودةً أم لم تكن فإنه في الفعل والانفعال الاجتماعي تصبح المرأة إنساناً من الدرجة الثانية.
إن أتّباع النظرة التاريخية لا ينكرون التفاوت الجسمي والنفسي بين الرجل والمرأة، ولكنهم يختلفون مع أصحاب الرؤية الأخرى في منشأ هذا التفاوت. فإن من يعتقد بأن هذا التفاوت الموجود هو نتيجة التطور التدريجي للإنسان لا يمكنه أن يعتقد بالبناء الطبيعي. فإن معنى التكامل التاريخي هو أن هذا التكامل حصل من دون تخطيط مسبق. النظرية الأولى تقول: إنه من البداية كان البناء على أن يكون بين الرجل والمرأة هذا التفاوت البنائي وهي نظرية ثبات الأنواع. وأما بناءً على نظرية التكامل فيمكن أن يكون للموجودات ألف نوع وشكل. ويعتقد أصحاب نظرية التكامل التاريخي أن هذا التفاوت سواءً بلحاظ الحالة الجسمية أم النفسية وقع نتيجة التطور التاريخي. ويعتقد هؤلاء أنه وإن كان هذا البناء قد اتخذ شكله الحالي ولكنه يقبل التغيير ويمكنه أن يتخذ أشكالاً أخرى من الحياة الأسرية وبنوع آخر من توزيع العمل ونظام الحقوق ويقل بشكل تدريجي التفاوت لصالح العدالة والمساواة في الحقوق. نعم لا ينبغي أن يصل الأمر إلى حد سقوط أصل النظام الأسري.
توافق النظام والطبيعة
لا ترديد في أن من الفرضيات المسبقة لدى الفقهاء المسلمين أن نظام الاسرة هو نظام طبيعي، وأن هذا النظام الطبيعي له شكله الخاص، وبعبارة أخرى إن هناك نوعاً واحداً من نظام الأسرة يستحقّ وصفه بالطبيعي، وهو الذي يوجب تقسيماً خاصاً للحقوق والواجبات.
وقد قام الفقهاء ضمن هذا التصوّر بالقيام بمطالعة الأحكام الموجودة في الكتاب والسنة وبنوا على افتراض أن الله عز وجل لا يمكنه ولا يريد إصدار أحكام تتعلق بالأسرة تكون على خلاف النظام الطبيعي للأسرة التي خلقها عليه. والنتيجة هي أنهم اعتبروا الأحكام المبيّنة في الكتاب والسنة هي عبارة عن الوضع الطبيعي للأسرة، وأن هذه الأحكام التي صدرت في صدر الإسلام فيما يتعلق بنظام الأسرة، هي أحكام دائمة لا تقبل التغيير. لقد كانت من الفرضيات المسبقة لديهم أن وظيفتهم البحث عن قانون أبدي. وعلى أساس هذا النوع من الفرضيات المسبقة لم يخطر في ذهن أحد وعلى امتداد التاريخ وإلى عصرنا الأخير إمكان تغيير هذه الأحكام
إقرأ أيضا لـ "محمد مجتهد شبستري"العدد 1491 - الخميس 05 أكتوبر 2006م الموافق 12 رمضان 1427هـ