العدد 1484 - الخميس 28 سبتمبر 2006م الموافق 05 رمضان 1427هـ

دعوة إلى إحياء جدلية النص والواقع

الشيخ حميد المبارك hameed.almubarak [at] alwasatnews.com

يعد البحث المقارن في مجال الأديان من أهم المجالات في البحث الديني ويتفرع على ذلك في الأهمية البحث في آليات التقييم والمفاضلة بينها إذ إن المدارس الدينية في العالم الإسلامي كمدارس اللاهوت التابعة للكنيسة المسيحية مازالت تحصر اهتمامها بأبحاث الميتافيزيقا وتمحيص الأدلة العقلية والنقلية من دون اعتناء بالبحث في واقع التفسيرات الدينية وتأثيراتها على الحياة سلبا أو إيجابا مع إن لذلك ارتباطا بمدى حقانية تلك التفسيرات إذ لا يراد الدين لذاته بل لتكون له جدوى في حياة الإنسان كما هو واضح في نصوص دينية كثيرة منها الآية الكريمة من سورة الجمعة «هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة» (الجمعة: 2).

ولعل الكثير من الناس لا يرضيه كلامي هذا لأنه يفترض اني أدعو إلى إخضاع دين الله لتقييم الإنسان ولكن الحقيقة هي انني أدعو إلى إخضاع فهم الإنسان للإنسان نفسه لأننا لا نتحدث عن الدين ذاته بل عن فهم الإنسان له، فما هو المانع من إدخال عنصر التجربة في تقييم هذا الفهم البشري أسوة ببقية المعارف البشرية؟ فمن خلال ذلك فقط نستطيع أن ننظر الى الأديان بعينين مفتوحتين ونخفف من حدة التجريد في التنظير الديني ونقربه الى مستويات أكثر واقعية إذ إن الاشكال ليس في الأديان ذاتها بل في تفسير الإنسان لها إذ كان ومازال يساء فهمها دائما منذ نشوئها فماذا كان مصير الأتباع الأوائل لإبراهيم ونوح؟ لقد آل بهم الأمر الى عبادة الأصنام انطلاقا من الدين نفسه، فالرواية التاريخية تقول إنه لما مات صلحاؤهم صنعوا التماثيل على شاكلتهم تعظيما لهم ثم انتهى بهم الأمر الى عبادتهم والاعتقاد بأنهم يرزقون ويتصرفون في أمور العالم، وما إن رجع موسى من الميقات حتى رأى بني إسرائيل يعبدون العجل لأنهم فهموا الرب بطريقتهم البشرية الساذجة، وما إن رحل النبي محمد (ص) حتى اختلف الناس في أهم قضية في الإسلام وهي قضية الإمامة.

وهذا المسلسل المتواصل من تحريف الأديان يرشدنا الى الحاجة لنقد التراث الديني بصفة جادة ومستديمة من قبل الذين يملكون أدوات النقد، ولكننا دائما نخاف من نقد عناصر التراث متمثلة في النصوص أو الشخوص، لماذا؟ لأنها أسلحتنا في المعركة الدائرة مع الأديان والمذاهب الأخرى كما صرح بذلك بعض المفكرين الإسلاميين في سياق رده على حسن حنفي الذي انتقد في كتابه (الدين والثورة) أداء بعض الصحابة، هذا مع ان قسما كبيرا من التراث تشكل تاريخيا في أجواء الصراع المحموم بين الأديان والمذاهب وقد لا يمت بصلة للعناصر الأولى للدين، فمن المهم العاجل تعريض عناصر التراث الديني للنقد الصارم وإنهاء فترات التلميع والتبرير والاستسلام المتواصل وقد قلت في مقال سابق إن ثقافة التعبد ساهمت في نمو الوجه العبوس للدين ففهم بعض المنتقدين من ذلك بأنه دعوة الى سلب الدين من طابعه التعبدي وقال ما الذي سيبقى من الدين حينئذ؟ إذ ليس الجوهر الأصلي له الا التسليم والتعبد لديان الدين، وقالوا هل تسعى من وراء هذا الكلام الى مقارنة الثقافة الدينية بالثقافة البشرية العادية؟

وفي الحقيقة كنت أشير بثقافة التعبد الى عدة مظاهر ساهمت في تراكم ثقافة دينية لا معقلنة ومن هذه المظاهر انحصار دور غير الفقيه في التقليد والتلقي المطلق بمعنى التسليم للتفسيرات الدينية التي يتبناها متخصصو الشريعة الفقهاء - من دون الجرأة على مساءلتها، فالإنسان العادي أو العامي ينحصر دوره بناء على هذه الثقافة - في التلقي البسيط وليس له أي دور في مقام فهم النص، وهذه قضية محيرة حقا إذ إن الخطاب بقراءة القرآن عام لجميع المتدينين وهو يدل بالملازمة على إمكان أن يفهمه القارئ المخاطب بالقراءة كل حسب سعته وطاقته على غرار «فسالت أودية بقدرها» - إذ لا يعقل أن يكون الأمر بقراءته لمجرد البركة أو إهداء الثواب للأموات مثلا، ونجد أن القران ذم عوام اليهود بأنهم «اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله» وقد جاء في تفسير الآية عن أهل البيت عليهم السلام - بأن أولئك الناس ما ركعوا وما سجدوا لأحبارهم ولكن أطاعوهم في كل ما يأمرون وينهون، وقد يعترض أحد بأنه كيف يكون للفرد العادي حق البحث والمساءلة وهو غير متخصص في فهم الشريعة؟ ولكن لا يجب أن نغفل إمكان أن يكون للفرد العادي حظ من فهم النص وملابساته يميز به تمييزا إجماليا بين الصواب والخطأ وإن غفل عن التفاصيل، كما قد يدرك الفرد العادي - من خلال المعاناة العملية - بأن الدواء الذي وصفه له الطبيب يزيد صحته تدهورا وإن لم يستطع معرفة تفاصيل التركيبة الكيماوية للدواء الذي أضر بصحته فكذلك قد يدرك غير الفقيه بمقتضى الملاحظة العملية وجود خلل ما في تنظير ديني محدد وأنه عمليا - لا يتقدم بالإنسان الى الأمام وإن كان لا يمكنه معرفة تفاصيل مواطن الخلل، وقد يحق للخبير الاقتصادي مثلا أن يقول إن تنظيرا فقهيا محددا يضر بالاقتصاد العام وبالتالي يكشف عن خلل ما في ذلك التنظير ويدعو الفقيه الى إعادة النظر في قراءته للدليل الشرعي، أو يقول خبراء السياسة إن تنظيرا فقهيا لا ينسجم والمصلحة الوطنية العامة أو يؤجج الكراهية في المجتمع وبالتالي يخل بالنظام العام أو يضر بالتعايش السلمي بين الشعوب أوبين الطوائف في المجتمع الواحد فيتوقف الفقيه عند تلك الملاحظات وقد يكتشف من خلال ذلك طريقة جديدة في التعامل مع النص إذ إن الإبداع المعرفي لا يتأتى عادة إلا في سياق البحث عنه والقناعة بالحاجة اليه، وهذه سنة عامة في كل شيء فالذي يكتشف الجديد في طريقة الحياة هو من يكون لديه طموح التغيير الى الأفضل وهو فقط من يكون لديه وعي بنواقص الحاضر، فما لم يشعر الفقيه بالحاجة الى فهم جديد للنص فلن يكون له مدخل الى ذلك الفهم أبدا. ولاشك في أن ما نفهمه من النص يتأثر الى حد بعيد بما نحن في صدد البحث عنه في ذلك النص أي السبقيات والتوقعات التي ندخل بها على النص، وهنا يتضح الى حد بعيد ما ادعيناه في مقال سابق من ضرورة إحداث جدلية متواصلة بين الواقع والنص في حال أن إهمال هذا السياق المهم جدا مع إلحاح ضرورات الواقع أدى الى الاستعانة بما يسمى فقه النوازل أو الضرورات وبالتالي الوقوع في مطب غلبة مساحة الأحكام الثانوية على الأحكام الأولية حتى صار الاستثناء فيها يكاد يغلب القاعدة! فالكثير من التنظيرات الفقهية المرتبطة بمجالات الحياة المعاصرة كشئون الاقتصاد والمرأة وإدارة الدولة والعلاقات بين المسلمين وغيرهم تستند الى مبدأي الضرورة والحرج وهما حكمان استثنائيان في الأصل ولكنهما أصبحا غالبين على الأحكام الأولية النظمية والتي اضطررنا الى تنحية الكثير منها جانبا وتجميد فاعليتها لصالح الأحكام الثانوية، فنحن نستسلم عمليا للربا ونتعامل مع قوانين الدولة الوضعية ونسوغ أن تدرس المرأة وتعمل في أجواء مختلطة ونسكت على بناء الكنائس والأديرة في بلادنا ثم نعلل كل ذلك بالضرورة! فهل بقي شيء من شئون الحياة لم نلبسه ثياب الاضطرار؟ يرجع الكثير من المهتمين تردي الأحوال المعنوية للمسلمين مثلا الى التقصير في تطبيق الدين ولكنني أعتقد بأن قسما كبيرا منها يرجع الى خلل في مرحلة سابقة وهي الفهم ذاته، فلماذا لا يدعونا تردي الأوضاع الى إعادة النظر في تفسيراتنا للدين فلعلنا نكتشف أين الخلل.

للاطلاع على بعض نماذج التراث الذي يجب أن ينقد، لاحظ كتاب عندما يحكم الإسلام - للأستاذ عبدالله النفيسي - نعاني كثيرا من مشكلة سوء الفهم والاستعجال في ترتيب لوازم الكلام قبل التمعن في المقصود الحقيقي منه مع ان مقتضى الأمانة الخلقية والدينية هو السعي إلى فهم ما يقال بحجمه الحقيقي من دون اعطائه أبعادا افتراضية

إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "

العدد 1484 - الخميس 28 سبتمبر 2006م الموافق 05 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً