«له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى» (طه: 6)... هـذه الآية الكريمة جاءت في مقدمات سورة طه وهي سورة مكية، وعدد آياتها (135) بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم تكريماً لخاتم الأنبياء والمرسلين (ص) لأن (طه) اسم من أسمائه الشريفة بدليل توجيه الخطاب اليه مباشرة بعد هذا النداء، وان اعتبره نفر من المفسرين من المقطعات الهجائية التي استهل بها عدد من سور القرآن الكريم والخطاب من الله (تعالى) الى خاتم أنبيائه ورسله (ص) فيه من التكريم، والتشريف ما فيه، خصوصاً أنه قد جاء تطييبا لخاطره، وتسرية عنه، وتخفيفا لثقل ما كان يلقاه من كفار قريش ومشركيها من أنكار لنبوته، وتكذيب لرسالته، وصد لدعوته، وتجريح لشخصه الكريم وهو الذي اشتهر بينهم بالصادق الأمين.
والسورة من بدايتها إلى نهايتها خطاب موجه من الله تعالى إلى خاتم انبيائه ورسله عليه وعليهم أجمعين أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وفي هذا الخطاب الإلهي تأكيد لنبوته، وتأييد لرسالته، وتهوين للأمر عليه بحصر رسالته في البلاغ عن الله تعالى، والانذار والتبشير، وترك الخيار للناس، استجاب من استجاب، وأبى من أبى لأن أمرهم بعد ذلك متروك لله وحده.
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول عدد من ركائز العقيدة الاسلامية، وفي مقدمتها الايمان بالله، وتوحيده سبحانه وتعالى وتنزيهه عن كل وصف لا يليق بجلاله، والايمان بملائكة الله، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبحقيقة الوحي، ونبوة الأنبياء والمرسلين، وحتمية البعث والنشور، والحساب والجزاء بعد العرض الأكبر امام الله تعالى، ولذلك أوردت السورة الكريمة بعض مشاهد القيامة، وأحداث يوم الحشر حتى يدخل اهل الجنة الجنة، ويدخل اهل النار النار.
وفي عجالة عرضت هذه السورة الكريمة أيضا لقصة ابينا آدم (ع) الذي غفر الله سبحانه وتعالى له خطيئته، وهداه كما هدى ذريته بارسال الأنبياء والمرسلين اليهم مبشرين ومنذرين، وترك الخيار للناس.. «فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل» (يونس: 108).
من ركائز العقيدة في سورة طه
(1) ان القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم انبيائه ورسله سيدنا محمد بن عبدالله (ص) الذي ذكرته السورة الكريمة باسم طه، وأنزلت السورة لتكون تذكرة لمن يخشي.
(2) ان الله تعالى هو خالق الأرض والسماوات العلى الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وانه سبحانه وتعالى هو الرحمن على العرش استوى (استواء يليق بجلاله) وان من صفاته جل جلاله انه لا يضل ولا ينسى.
(3) وان له سبحانه وتعالى ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
(4) وأنه سبحانه يعلم السر وأخفى، وأنه وسع كل شيء علما، وأنه يعلم ما بين أيدي خلقه وما خلفهم، ولا يحيطون به علما، وأنه لا إله الا هو له الأسماء الحسنى.
(5) وأنه تعالى خلق الناس من الأرض، وفيها يعيدهم، ومنها يخرجهم تارة أخرى.
(6) ان عبادة الله تعالى بما أمر، وإقامة الصلاة لذكره جلت قدرته هي من حقوق الله سبحانه وتعالى على خلقه، ومن هنا فلا يجوز التقصير فيها أبدا، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى:
«ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمي وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسي. وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقي ( طه: 124 - 127).
(7) ان الساعة آتية لا محالة، يكاد الله تعالى يخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى، وأن من لايؤمن بها كافر هالك، وأن العذاب على من كذب وتولى، وأنه قد خاب من افترى.
(8) «انه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى. ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى. جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى» ( طه: 74 - 76).
(9) وان من يحلل عليه غضب الله فقد هوى، وان الله تعالى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى.
(10) ان الشيطان للانسان عدو مبين، وان السحر من الكبائر.
... «ولايفلح الساحر حيث أتى» (طه:69)، وأنه من أبشع أنواع الظلم «وقد خاب من حمل ظلما» (طه: 111)
(11) انه لايجوز للمسلم ان يكشف عورات انسان آخر، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: «ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى» ( طه:131)
من الاشارات الكونية في سورة طه
(1) ان الله (تعالى) هو خالق الأرض والسماوات العلى، بمعنى أنها كلها مخلوقة، وليست أزلية ولا أبدية، بل لها بداية يحاول العلم التجريبي حسابها، وكل ما له بداية لابد أن ستكون له في يوم من الأيام نهاية (طه: 4)
(2) «له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى» (طه: 6)
وفي الآية الكريمة إشارة إلى مركزية الأرض من الكون، وإلى وجود حياة مزدهرة في قطاع التربة، وهي حقائق لم تكن معروفة لأحد من الخلق غير رسول الله (ص) في زمن الوحي، ولا لقرون متطاولة من بعده، وتظل مجهولة لغالبية الناس في زمن تفجر المعارف العلمية الذي نعيشه اليوم.
(3) «وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى» (طه: 7)
وهي اشارة الى ثلاث مراتب من التعبير وهي: الجهر الذي يعلمه صاحبه، ويعلمه من سمعه، ويعلمه الله تعالى، والسر هو ما حدث الانسان به غيره في خفاء، والذي يعلمه صاحبه ومن أسر به اليه ويعلمه الله، ويجهله من لم يسمع به، والأخفي هو الأخفى من السر، وقد يشير إلى الخواطر النفسية التي لا يحدث المرء بها غيره أو ما يعرف باسم حديث النفس، أو هو مااستقر في العقل الباطن ولا يدري به صاحبه ولكن الله تعالى يعلمه لأنه سبحانه علام الغيوب.
(4) «قال ربنا الذي أعطي كل شيء خلقه ثم هدي» ( طه:50)
وهي إشارة الى حقيقة الخلق وربوبية الخالق سبحانه وتعالى وإلى السنن الحاكمة لكل صغيرة وكبيرة في هذا الكون وهي كلها من أمر الله وهدايته.
(5) «الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى. كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى. منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى».(طه:53 - 55)
وفي هذه الآيات الكريمة اشارات إلى تمهيد الأرض، وشق السبل فيها، وإنزال الماء من السماء في دورته حول الأرض، وإخراج مئات الآلاف من أنواع النبات المختلفة، وكلها في زوجية واضحة، وهي سنة عممها ربنا تبارك وتعالى على جميع خلقه حتى يبقى متفردا بالوحدانية المطلقة من دون سواه سبحانه وتعالى.
ثم تأمر الآيات الانسان بالأكل مما خلق له الله تعالى من هذه النباتات، ويرعى فيها أنعامه، وان يتأملها بنظرة العاقل البصير لأن في كل منها آيات لأولي النهى.
وتؤكد الآيات خلق الخلق من الأرض، ودفنهم فيها، وحتمية اخراجهم منها.
(6) الاشارة إلى معجزة شق البحر لنبي الله موسى (ع) ولمن آمن معه، والمعجزات خوارق للسنن، وبالتإلى لا تستطيع العلوم المكتسبة تفسيرها، ولكن من رحمة الله بخلقه ان يترك لهم عددا من الآثار الحسية المترتبة على وقوع المعجزة حتى يمكنهم التسليم بوقوعها، ويا ليتنا نهتم بتحقيق تلك الشواهد الحسية وبابرازها للناس على هيئة ورقة دعوية مقنعة في زمن العلم الذي نعيشه.
(7) وصف مصير الجبال في الآخرة وصفا علميا دقيقا، وان كنا نؤمن بأن الاخرة لها من السنن والقوانين ما يغاير سنن الدنيا تماما، إلا انه من رحمة الله بنا أن يبقي لنا من الشواهد الحسية في صخور الأرض، وفي صفحة السماء ما يؤكد امكانية حدوث ما وصفه الله تعالى في الآخرة، وفي وصف نهاية الجبال في الاخرة يقول ربنا تبارك وتعالى في سورة طه ما نصه:
«ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا. فيذرها قاعا صفصفا «لا ترى فيها عوجا ولا أمتا». ( طه:105 - 107)
ونحن نرى في حياتنا الدنيا ان الجبال تتكون بعمليات الطي (العوج) أو عمليات التصدع وما لها من صفات أرفع سطح الأرض وخفضه (الأمت)، وقد تشترك العمليتان في تشكيل الكثير من جبال الأرض اليوم، وهي حقائق لم تدرك إلا بعد تطور المعارف العلمية في مجال علوم الأرض عبر القرنين الماضيين، وورودها في كتاب انزل من قبل أربعة عشر قرنا، علي نبي أمي (ص)، وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين لمما يجزم بأن القرآن الكريم لا يمكن ان يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق، الذي أنزله بعلمه، على خاتم انبيائه ورسله، وتعهد سبحانه وتعالى بحفظه كلمة كلمة، وحرفا حرفا، فحفظ، في لغة وحيه (اللغة العربية) ولذلك بقي محتفظا بجلال الربوبية الذي يتلألأ بين آياته وكلماته، وبعدد من صفاته التي تشهد باعجازه ومن أوضحها الآيات الكونية في هذا الكتاب العزيز الذي قال عنه ربنا تبارك وتعالى:
«إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» (الحجر:9)
وكل آية من هذه الآيات الكونية التي أنزلها ربنا تبارك وتعالى في سورة طه تحتاج إلى معالجة خاصة، لذلك فسوف أقصر حديثي هنا على النقطة الثانية من القائمة السابقة، والتي جاءت في الآية السادسة من سورة طه
العدد 1484 - الخميس 28 سبتمبر 2006م الموافق 05 رمضان 1427هـ