فجر تنامي المنظمات الاجنبية الغربية في المجتمع الأردني ودعمها المادي بعشرات الآلاف من الدولارات سنويا للكثير من المنظمات الأهلية الأردنية الناشطة في قضايا حقوق الانسان والمرأة والحريات الشخصية جدلا واسعا في الأوساط السياسية الأردنية بين مؤيد ومعارض. وقبل فترة أعلنت النقابات المهنية الأردنية الناشطة ضد التطبيع مع اسرائيل قرارا بمقاطعة ورشة عمل نظمها مركز الأردن الجديد بتهمة تلقي المركز تمويلا أجنبيا، وصفتها النقابات بأنها مشبوهة. وقبل هذا القرار بأشهر فجّر الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني يعقوب زيادين، بعد انشطاره إلى جناحين متنافسين على شرعية التمثيل الشيوعي في الأردن، قنبلة سياسية خطرة حين أعلن أن بعض أعضاء اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي المنافس له تلقوا عشرات الآلاف من الدولارات من جهات أجنبية مشبوهة لتمويل مشروعات محلية مثل تثقيف الأردنيات على تخفيض الانجاب الأسري.
جوهر الخلاف المتفجر بين الاوساط السياسية الاردنية هو وجود تيار نخبوي من الاتجاهات السياسية والحزبية والنقابية والمستقلة كافة، يرى في حوارات أجرتها «الوسط» معه ان تمويل المؤسسات الاجنبية بعشرات الآلاف من الدولارات لمؤسسات أردنية أهلية ناشطة في مجالات المرأة والبيئة وحقوق الانسان يستهدف إحداث تغلغل للمصالح الأجنبية الغربية في المجتمع الأردني من خلال المؤسسات الأهلية الأردنية وتحقيق اختراقات في الأوساط الفاعلة في المجتمع الأردني وبنيته. لكن المدافعين عن التمويل الأجنبي يقولون في حوارات مماثلة أجرتها «الوسط» معهم انهم يستهدفون المساهمة في تطوير المجتمع الأردني وزيادة وعيه في مجالات مختلفة، ويرفضون أي تشكيك في أهدافهم وبرامجهم التي تنسجم وتشتق من برامج المؤسسات الأجنبية التي تنتمي إلى الجنسية الاميركية والبريطانية والفرنسية والالمانية والكندية والنرويجية بشكل رئيسي. ويبررون لجوءهم إلى التمويل الاجنبي بغياب التمويل الحكومي لبرامجهم. ويقول عبدالله حمودي - مستقل - الذي يتزعم التيار المعارض للتمويل الاجنبي، وهو أبرز الباحثين في موضوع المؤسسات الأهلية الأجنبية في حديث له إلى «الوسط» ان عدد المؤسسات الأجنبية غير الحكومية الناشطة في الأردن والتي تقدم التمويل المادي إلى مؤسسات أهلية، يبلغ 44 مؤسسة. وتابع يقول: ان وثائق غالبية هذه المؤسسات تؤكد أنها امتداد لسياسات أحزابها وحكوماتها ومنظماتها الأم، وتشمل نشاطاتها المرأة وقوانين الاحوال الشخصية والتطبيع مع اسرائيل والتسوية السياسية في المنطقة واللاجئين والعنف. ويرى حمودي ان المؤسسات الأجنبية الناشطة في الأردن تهدف إلى خلق انماط فكرية تتبنى عن قناعة وجهة النظر الغربية في مجتمعاتنا العربية والعمل على تعميمها، والتبشير بأفكارها ليصلوا في النتيجة إلى خلق نخبة سياسية وناشطين داخل المجتمع المحلي للعمل على تعميم الثقافة الغربية ووجهات نظرهم السياسية. وأضاف: ان هذه المؤسسات تنشط داخل المجتمع المحلي الأردني وتعمل على التطبيع الهادئ مع «اسرائيل»، وتركز على اساتذة الجامعات وصناع القرار والنخب السياسية والاجتماعية الفاعلة وتقدم التمويل المادي السخي إليهم. وأكد ان هذه المؤسسات ترفض تقديم أي دعم مالي في مجال البحث العلمي كالفيزياء والكيمياء والطب. وأشار إلى ان أبرز المؤسسات الناشطة في الأردن هي «الامد ايست» و«مؤسسة الشرق الأدنى» و«فولبرايت» و«فورد» و«فاونديشن» وغيرها، وتضم جميعا كبار العقول الاميركية المؤثرة في وزارة الخارجية والبيت الأبيض والكونغرس ووزارة الدفاع. وتابع يقول: «ان هذه المؤسسات تعمل على اقناع الأردنيين بجدوى التسوية السياسية المطروحة». وانتقد عبدالله غياب التشريع الحكومي لمنع التمويل الاجنبي للناشطين الأردنيين. وقال: «ماذا يعني ان يتلقى عشرات الأفراد عشرات الآلاف من الدولارات الاميركية والالمانية سنويا من دون تدخل حكومي، بل وبعلم الحكومة». وأضاف ان معهد واشنطن هو الذي أنجز الدراسات الرئيسية للتسوية بين اسرائيل والدول العربية منذ العام 88 وأصدر كتاب «بناء السلام و500 ساعة من المفاوضات». وان منظمة «فافو» النرويجية حصلت من الحكومة الأردنية على موافقة على دراسة اجراء مسح الأحوال المعيشية للاردنيين العام 1994، ودراسة أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في الأردن.
وبحسب وثيقة خاصة بمعايير وكالة التنمية الاميركية الناشطة في الاردن - أمكن الاطلاع عليها - فإن الوكالة تشترط لتمويل أي مشروع ان يتضمن من يقدم الدعم إليه، مساهمة عربية واسرائيلية. وان يقدم الدليل الواضح على مساندة الطرفين، وأن يخلق لقاءات واتصالات بين عرب واسرائيليين، والعمل على معرفة وتفهم كل طرف بمجتمع وثقافة الطرف الآخر، ويؤدي إلى خلق حوار بين الأفراد والمؤسسات لدى الطرفين.
ويتفق معارض آخر للتمويل الاجنبي هو أمين عام أحد جناحي الحزب الشيوعي الاردني المنشق على نفسه، يعقوب زيادين مع رأي حمودي ويقول: «إن المؤسسات الغربية الاميركية والالمانية والبريطانية وغيرها الناشطة في الأردن هي الوجه الآخر للتغلغل الامبريالي في مجتمعنا الأردني والعربي والعالم الثالث». وتابع يقول: «بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج أضافت القوى الامبريالية أساليب جديدة للتغلغل في المجتمعات وأصبحوا بملايين الدولارات يتغلغلون في الأحزاب والجمعيات المحلية». واضاف ان الكثير من مراكز الدراسات في الأردن تحولت إلى مراكز مشبوهة وتقدم التقارير والدراسات إلى المنظمات الاجنبية المرتبطة بحكومات الدول الامبريالية لمساعدتها في التغلغل الأجنبي. وأكد ان بعض قيادات الحزب الشيوعي الذي انشق على نفسه حصلت على 62 ألف دولار للقيام بدراسات ومشروعات لتخفيض الانجاب الاسري للمرأة الأردنية. وأن أحد مراكز الدراسات الأردنية الممولة طلب منه احصاءات وتفاصيل عن النساء الحزبيات ومستوى تعليمهن وحالتهن الاجتماعية. وفي موازاة ذلك حذرت أحزاب المعارضة وهيئات نقابية وعشرات الشخصيات في بيان أرسل إلى «الوسط» من مخاطر التمويل الاجنبي. وذكر البيان ان التمويل الأجنبي يهدف إلى بناء شبكات للسلام تروج لاسرائيل تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الانسان ورفع سن الزواج والمرأة. وأكد البيان ان غالبية المؤسسات الاجنبية الناشطة في الاردن لها أهداف سياسية واجتماعية تتعارض مع المصالح الوطنية.
ويرى آخرون ان المشكلة هنا هي عدم وجود نص قانوني يحظر تلقي التمويل الاجنبي، ويفضل البعض وضع تشريع لمنع التمويل الاجنبي للأفراد، وإن كان البعض يقول: اذا كان لابد من التمويل الاجنبي فليكن بموافقة الحكومة ومراقبتها. ويتساءل البعض: من يصدق أن مؤسسة اجنبية تقدم إلى أفراد عشرات الآلاف من الدولارات سنويا لله؟ ومن يضمن عدم حصول اختراقات سياسية مقابل ذلك؟ إلا ان شخصيات أردنية بارزة تتلقى التمويل الاجنبي ترفض القبول بما يقوله المعارضون. ويبرر أحد هؤلاء وهو مدير مركز الأردن الجديد الذي يتلقى التمويل المادي من مؤسسات المانية هاني حوراني، اللجوء إلى التمويل الاجنبي لعدم الحصول على التمويل المحلي. وأضاف: «ان أي مشروعات نقوم بها تنطلق من أجندة وطنية خاصة ملتزمة بالثوابت الوطنية والقومية والانسانية، ولا تفرض علينا من الخارج». وأكد أن المركز الذي يرأسه لم ولن يقبل التمويل أو التعاون مع مؤسسات أو ينظم نشاطات تتعارض مع المصالح الوطنية والقومية، أو المس بأمن الوطن وسيادته. ورأى ان التهويل بالمخاطر تجاه التحويل من المؤسسات الأجنبية وصفة نموذجية للانعزال الفكري ومرافعة رجعية بحسب قوله. ويعتبر مركز الاردن الجديد، الذي تأسس مطلع التسعينات، من المؤسسات الناشطة في حلقات عن الديمقراطية وحقوق الانسان والمرأة والانتخابات.
وتؤيد منسقة الشئون الادارية والمالية للمعهد الدولي للنساء لينا قورة الذي يتخذ من كندا إحدى مقراته وله فرع في الأردن، ما يقوله حوراني. وتقول ان كل كلف برامجنا مدفوعة ماليا من المنظمة الأم الأجنبية مشيرة الى ان جزءا من موازنة العام 1999 كان 40 ألف دولار لستة أشهر، وأكدت ان المنظمة الأم لم تضع أي شروط إلا انها لم تستبعد وجود اهداف سياسية خفية لدى المنظمات الاجنبية غير الحكومية. وقالت: «يجب التدقيق في هذه المنظمات عند اتخاذ قرار بالتعامل معها». ويؤكد ممثل مؤسسة «فريديش ناومان» الالمانية في الاردن اولريش فوكت ان الدعم الذي تقدمه مؤسسته يستهدف دعم الحوار بين الهيئات الاهلية في المانيا خصوصا واوروبا عموما وبين الاقطار العربية، ومن بينها المؤسسات الأهلية الأردنية. وقال ان التعارف بين الجمعيات هو طريق الحوار بين الشعوب. واضاف: «اننا نهدف إلى المساهمة في تطوير المجتمعات المحلية العربية ودعم الناشطين فيها في خدمة مجتمعهم». وأكد ان مؤسسته لا تدعم أية مؤسسات أهلية تتناقض مع حقوق الانسان أو تؤمن بالانقلابات العسكرية أو بالعمل المسلح. وأكد أن مؤسسته لا تشترط على أية مؤسسة ان تكون مع التطبيع أو ضده تجاه «اسرائيل». وقال: «نحن لا نتدخل في القناعات السياسية عند تقديم الدعم». إلا ان احدى السيدات الناشطات - طلبت عدم ذكر اسمها واسم مؤسستها - أكدت ان إحدى المؤسسات الاميركية اشترطت على مؤسستها وقف معارضتها للتطبيع مع «اسرائيل» وتأييدها للعراق مقابل دعم مالي بعشرات الآلاف من الدولارات. وقالت: «رفضنا ذلك وخسرنا الدعم المالي، ولكننا حافظنا على مبادئنا ومواقفنا الوطنية والقومية»
العدد 148 - الجمعة 31 يناير 2003م الموافق 28 ذي القعدة 1423هـ