لقد دار هذا الحوار التالي بيني وبين مجموعة من الأصدقاء العرب الذين قابلناهم ونحن نحضر مؤتمراً في باريس عن حوار الحضارات، الذي افتتحه الرئيس جاك شيراك في 13 سبتمبر/ أيلول 2006. وكان بينهم سيدة لبنانية من الجنوب، خرجت من لبنان للمرة الثانية بعد عودتها منذ حرب الـ «عشرين عاماً»، وكانت مشحونة بالغضب الشديد، إذ إنها خسرت معظم مدخراتها وتهدم بيتها وأتت لاجئة إلى أقاربها هنا. وعلى رغم حبها وتأييدها لحزب الله، كانت تندد بالحرب وبالهجمة الوحشية التي تعرض لها لبنان، وبالثمن الذي كان ضرباً من أنواع الخيال!
السيدة ذكرت أيضاً أن هدم البنى التحتية والبنايات والجسور وسقوط المئات من الضحايا لم يترك لهم شيئاً كي يستندوا إليه لمواصلة الكفاح، وهو حتماً لا يساوي أي انتصار... وتابعت: ما قيمة الرئيس المنتصر الذي بات من دون شعب يستند إليه وهو في أسوأ الظروف من المعاناة وغث العيش و«البهدلة»؟ وما قيمة أي نوع من الحب والتعاطف في هذه الظروف السيئة؟ إن غلطة الشاطر بألف.
وأكملت حديثها: كنا نتمنى لو أنه قام بإعداد الجنوبيين، من عمل ملاجئ وإبعادهم ولو لفترة، كي يكونوا أكثر استعداداً... (وهي بذلك تعتقد أنه «نصرالله» هو الذي قام بتوقيت الحرب)، تصوروا... هذه السيدة اللبنانية كيف كان اعتقادها!
وتابعت: إنني أعرف أنه الانتصار الأول للعرب على «إسرائيل» منذ عدة سنوات، ولكن أنتم - يا عرب - بعيدون ولا تدركون كيف هي مآسينا ومعاناتنا، ولو أنني كنت مكانكم لكانت لي الفرحة نفسها بهذا الانتصار الخيالي في أثمانه ومغالاته... أنا حزينة جداً، حتى حسن نصرالله ذكر بنفسه أنه لم يتوقع أن يستمروا في العدوان كل ذلك الوقت، كما لم يكن يعرف أو يتوقع خبث الغرب بشأن منع أو وقف إطلاق النار ودورهم في استمرار العدوان لمدة شهر كامل، وهم المبتدئون، إنها مؤامرة حقيقية على لبنان.
صُعقت حقيقة من حدة لهجتها وكلامها، ولم أتوقع هذا الكلام من سيدة مساندة لحزب الله، وكنا نرى على التلفزيون أيام الحرب وجوهاً أخرى، ونساء كن يتمنين أن يحصلن على عباءة نصرالله للتمرغ في عرقها، أين ذهب كل ذلك؟ أهو في أول أيام الحرب فقط، أم ماذا؟
شرحت للسيدة، وأنا أشعر بالحزن الشديد وفي قلبي غصة وألم، كيف أن هذا الانتصار حقيقة لا جدال فيها، وكيف أن الحزب لم يكن البادئ أولاً، إذ إن توقيت الحرب لم يحدده حسن نصرالله، وأنه كان مجبراً على رد العدوان الذي بدأته الدولة الصهيونية... وهم من أعدوا لها منذ عام بعد قتل الحريري وخروج سورية من لبنان لتفتيت جبهة حزب الله، وأن الضربة كانت آتية بأي حال من الأحوال.
وسألتها: ماذا سيكون الوضع لو أن حزب الله لم يصمد كل ذلك الصمود العجيب، بإعطائهم درساً لن ينسوه أبد الدهر؟ ماذا لو لم تثبت دفاعاته في تحطيم الأسطورة بضرب «إسرائيل» في العمق؟ ماذا لو أن العالم رأى لبنان ضعيفاً واهياً ومن دون رجال يدافعون عن شرفه وأرضه؟ إنهم رفعوا رأسنا عالياً بقدراتهم الجبّارة في ضرب رأس الأفعى وتكبيد العدو خسائر مادية ومعنوية وبشرية.
اتفقنا بعد ذلك على أن الانتصار هو حقيقة لا جدال فيها، ولكن الثمن كان فوق الوصف والخيال، مع الأسف الشديد.
بعدها بت أفكر، كيف تُخلط الحقائق، وكيف يتجاوز الناس على ما يعتقدونه، وكيف يكيلون الاتهامات، وكيف أن عقل العربي أصبح جامداً إلى درجة لا يميز فيها بين الانتصار والفشل!
حتى الانتصارات باتت تبدو كالأحلام، التي قد تنقلب إلى كوابيس وأوهام، ونحن غير قادرين على استيعابها
إقرأ أيضا لـ "سهيلة آل صفر"العدد 1476 - الأربعاء 20 سبتمبر 2006م الموافق 26 شعبان 1427هـ