لعل أخطر ما أسفرت عنه هوجة هجمات سبتمبر/ أيلول 2001 ربط الإرهاب بالإسلام، وأخطر ما أنتجته خمس سنوات بعد الهوجة، هو اختراع الإسلاموفاشيزم، شعاراً سياسياً دينياً للحرب التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية الآن، ضد الإرهاب الدولي، أما الأخطر فهو فتح الباب واسعاً بتعمد أمام الحروب الدينية غطاء للحروب الاستعمارية الجديدة!
ونعتقد أن هذا فخ جديد ينصب لنا لاستدراجنا لحروب دينية في العصر الحديث، لا ينبغي أن ننزلق إليها بأي حال، والأسباب كثيرة.
وبداية نقول إن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن المأزوم سياسياً في الداخل والخارج، والمهزوم عسكرياً في أفغانستان والعراق، كرر عبارة الحرب ضد الإسلام الفاشي «الإسلاموفاشيزم» نحو عشر مرات، خلال حملته الخطابية الأخيرة بمناسبة الذكرى الخامسة لهجمات سبتمبر الدموية، ولم يأت ذلك اعتباطاً، كما لم تكن عبارته السابقة قبل سنوات «الحرب الصليبية» سقطة كلام لكن العبارتين نتاج ثقافة دينية راسخة في العقل الغربي عموماً، تعادي الإسلام وتحض على كراهية المسلمين وخصوصاً في أوقات المواجهة أو تحريضاً على المواجهة!
ومن المفيد أن نذكر أن بوش الرئيس المتدين هو أسير هذه الثقافة ليس فقط بحكم نشأته في الجنوب الأميركي، إذ «حزام الانجيل» لكن أيضاً بتأثره الفكري والسياسي بفلاسفة الحروب الدينية ضد الإسلام في العصر الحديث، بجناحيهم الديني المتطرف أمثال بات روبرتسون وغراهام وفولهام وغيرهم، والسياسي العلماني أمثال صمويل هانتنغتون صاحب نظرية صراع الحضارات والثقافات وبرنارود لويس منظر الموجة الحديثة من العداء للإسلام، فضلاً عن التأثر الشديد بضغوط اللوبي الصهيوني والمسيحيين الصهيونيين، الكارهين للعرب والمسلمين المناصرين لـ «إسرائيل» تحت دعاوى دينية متطرفة.
ولذلك لم يكن مستغرباً أن يجاهر الرئيس بوش زعيم أكبر دولة علمانية ديمقراطية في العالم وصاحب قانون الحريات الدينية الشهير، الذي يعاقب على ازدراء الأديان وكراهيتها، بقوله صراحة إنه يدرك أن الولايات المتحدة الأميركية تمر الآن بصحوة دينية مسيحية هي الثالثة بعد صحوتي أعوام 1730، 1760، 1800، 1830، وأن الصحوة الثالثة الحالية تأتي في إطار الحرب ضد الإرهاب ومواجهة الإسلاموفاشيزم، وهي مواجهة بين قوى الخير وقوى الشر والشيطان وأنه لن يسمح أبداً بقيام إمبراطورية إسلامية فاشية جديدة في الشرق الأوسط وذلك وفقاً لما نقلته عنه صحيفة «واشنطن بوست» الأسبوع الماضي!
ومن باب التسطيح أن نعتبر ذلك مجرد سقطات كلامية، من رجل يقود العالم ويشن الحروب على جبهات عدة، ويستدرج الجميع إلى صراعات عدة، لكن الحقيقة أن بوش نطق بما ترسب في عقله ووجدانه من أفكار وعقائد تلقاها عبر مراحله المختلفة، حاملاً صورة ذهنية راسخة تعادي الإسلام وتكره المسلمين، وتلقن للأطفال والشباب منذ الصغر في المدارس والجامعات والمنتديات بل وبعض وسائل الإعلام والتثقيف الفكري والكنسي.
غير أن الجديد حقاً هو تمادي الرئيس بوش في توظيف الايديولوجية الدينية هذه، في خدمة الايديولوجية السياسية، وفي خدمة الغزوات والحروب العسكرية المتسعة، وما يرافقها من تأثيرات اقتصادية وتجارية دولية، ناهيك طبعاً عن إذكاء العداء الديني وتشجيع حركات التطرف في بلادنا.
وها نحن نرصد استخدام وتوظيف هذه الايديولوجية الدينية المتعصبة في اتجاهين واضحين، أولهما في الحرب ضد الإرهاب، التي اسماها من قبل الحرب الصليبية الجديدة، ثم عاد فأكد المعنى هذه الأيام، فأسماها الحرب ضد الإسلام الفاشي، إذ بعد أن نجح التحالف الأميركي الأوروبي في هزيمة النازية الألمانية والفاشية الإيطالية خلال الحروب العالمية الثانية، ثم في هزيمة الشيوعية من خلال الحرب الباردة، ها هو الدور يأتي على الفاشية الإسلامية، كما يقولون!
أما الاتجاه الثاني فهو استخدام الايديولوجية الدينية، بتأثير سياسي مباشر من المسيحيين الصهيونيين، في دعم «إسرائيل»، العدو الأول للعرب والمسلمين، وحمايتها وفق معتقد ديني قديم يملي مساندة سياسية عسكرية واسعة.
وفي الحالين فإنها ايديولوجية تعادي المسلمين والعرب، وتشعرهم بأنهم يتعرضون لعداء وكراهية وصولاً للحرب الدينية الهاجمة تغذيها عقائد اصولية متطرفة وتقودها جماعات وزعامات تدعي الدفاع عن الحضارة «اليهومسيحية» التي تتعرض لإرهاب الإسلاموفاشيزم وهو أمر يغذى بالضرورة جماعات أصولية متطرفة على الجانب الإسلامي، فإذا تصادمت الأصوليات المتطرفة على الناحيتين يشتعل ويتزايد يوماً بعد يوم، وتصريحاً بعد تصريح!
وحين يزل لسان الرئيس بوش، أو حتى يتعمد الولوج في إشعال أتون حرب دينية على هذا النحو، فالأمر يمكن أن يفهم على أساس انه لعب في السياسة، أو استغلال للدين في تحقيق هدف سياسي ونصر عسكري عجز حتى الآن عن تحقيقه، لكن حين يأتي مثل هذا الكلام التحريضي على لسان بابا الفاتيكان رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم بنديكت فإن الأمر يختلف تماماً، بحكم ما للقائل البابا، من مكانة دينية وثقل دولي في الغرب، وتأثير روحي مباشر على الملايين المسيحيين.
ففي الثالث عشر من سبتمبر الجاري كان البابا يلقي محاضرة في موطنه ألمانيا، وتعرض خلالها بالطعن العلني في عقائد مليار ونصف مليار مسلم، حين ردد قول الامبراطور البيزنطي مانويل الثاني في القرن الرابع عشر، «إن محمداً لم يأت إلا بكل ما هو سيئ وشر وغير إنساني» بسبب حضه على نشر الإسلام بالعنف وبحد السيف.
وحجة أن البابا كان يستشهد بمقولة غيره في نطاق محاضرته، حجة خائبة، لأن الاستشهاد من دون تفنيد أو اعتراض هو قبول بما قيل وإيمان به وبالتالي فهو يدخل في باب الفتوى الدينية المحرضة ضد الإسلام والمعادية للمسلمين، والمولدة للعنف الدامي، والمؤيدة إذاً لمقولة الحرب الشاملة ضد الإسلاموفاشيزم التي يرددها الرئيس الأميركي وحواريوه فيشعلون الدنيا عنفاً وإرهاباً!
وعلى رغم أننا لا نحبذ التورط في هذه الدعاوى والفتاوى المحرضة على الحروب الدينية، فإننا نعرف أن كل الأديان خاضت حروباً دامية دفاعاً عن مبادئها أو نشراً لدعواها ولعل بابا الفاتيكان يعرف أن الكنيسة الكاثوليكية التي يجلس الآن على عرشها، هي التي أفتت وحرضت دينياً على شن الحروب الصليبية ضد العرب والمسلمين، بحجة مسيحية وتحت راية الصليب بينما الهدف كان استعمارياً توسعياً وهو الأمر الذي رافقه قتل مئات الآلاف من المسلمين والمسيحيين العرب، الذين اصطفوا للدفاع عن أوطانهم ومعتقداتهم وهي الكنيسة الكاثوليكية ذاتها التي افتت وشجعت على فرض الكاثوليكية على أميركا الجنوبية بقوة سلاح بقتل مئات الآلاف من السكان الأصليين!
وهي الكنيسة نفسها التي أقامت محاكم التفتيش بالتحالف مع نبلاء الاقطاع في أوروبا في القرون الوسطى، فراح ضحيتها إعداماً مئات الآلاف بتهمة الهرطقة وهي الكنيسة ذاتها أيضاً التي تحت رايتها وفتاواها الدينية جرت المذابح الدموية الشهيرة في الاندلس قبل 500 عام لمئات الآلاف من المسلمين بل اليهود!
نقول ذلك فقط لنذكر لعل الذكرى تنفع، ثم نقوله لنحذر من خطورة الاندفاع الهستيري في إشعال الحروب الدينية ضد الإسلام المتهم بالفاشية وبأنه دين العنف والقتل، فما يجري الآن من حملات الكراهية ضد الإسلام التي يجاهر بها قادة سياسيون ودينيون وروحيون في الغرب يدخل في باب الحرب الدينية حتى وان قالوا إنها حرب ضد الإرهاب الذي نحن ضده في أول الأمر وآخره.
ومعالم هذه الحرب، أو مؤشراتها واضحة للعيان، ابتداء من الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول الأعظم (ص) حتى حملات المضايقة والكراهية ضد الجاليات الإسلامية في أوروبا وأميركا، ومن إشعال الحرب الأهلية الطائفية في العراق، إلى تلوين الصراع في جنوب السودان بأنه صراع ديني بين المسلمين وغير المسلمين، ومن محاولة إعادة الفتنة الطائفية في لبنان، إلى العبث الواضح بالوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط في مصر، أما اذكاء الصراع المذهبي بين السنة والشيعة في المنطقة بأسرها فحدث ولا حرج.
المؤكد أننا كدول وشعوب وحكومات، نتحمل جزءاً من مسئولية الانحدار في هذه الصراعات، بحكم القصور أو عدم المساواة والظلم، لكن المؤكد أن الأيدي القذرة لعبت ومازالت وستظل تلعب في هذا الشأن، اذكاء للصراعات وتمهيداً للحروب الدينية الأوسع والأخطر الهاجمة من الغرب.
دورنا... بداية ونهاية هذه أولاً حرب دينية لا نريدها ولا يجب التورط فيها، وهي ثانياً حرب استعمارية استغلالية جديدة، يشنها العرب بغطاء ديني، ودورنا ثالثاً يجب أن نتوجه نحو مقاومة الاستعمار واستغلال الدين في الصراع السياسي العسكري بصرف النظر عن مذهبه والأمر نفسه ينطبق على مكافحة الإرهاب بكل ألوانه، سواء جاء من عندنا أو من عندهم، فبعض ما يجري في ساحتنا إرهاب وبعض ما يجري في ساحتهم إرهاب... كلاهما مدان!
هذا إذا كان العقل رائدناً ومرشدنا...
خير الكلام:
يقول الفيلسوف الأندلسي بن باجة:
أصالة الإنسان بعقله، وسعادته رهن نشاط عقله
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1475 - الثلثاء 19 سبتمبر 2006م الموافق 25 شعبان 1427هـ