ان طبيعة البحرين الجغرافية كجزيرة تقع وسط الخليج، جعلها مركز استقطاب لهجرات متعددة الأجناس والأطياف عبر التاريخ، إذ استقبلت الكثير من الاعراق المختلفة من أهل فارس والهند وإفريقيا، ومن أديان شتى، مسلمين ونصارى ويهود، كما احتضنت الهجرات العربية القادمة من العراق، ونجد، والإحساء وعمان واليمن وحضرموت، وتزايدت الهجرة إلى البحرين وخصوصا في مطلع القرن العشرين من البلدان الآسيوية المجاورة ولا سيما من إيران والهند، وترجع هذه الهجرات إلى عدة أسباب منها:
- انتعاش التجارة في البحرين وخصوصا تجارة اللؤلؤ وتجارة العبور.
- انفتاح البلد وعدم وجود قوانين ملزمة تحد من الهجرة والانتقال.
- الظروف السياسية والاقتصادية الطارئة على إيران والهند آنذاك.
السياسة الاستعمارية البريطانية في البحرين والتي لعبت دورا كبيرا في هجرة الهنود إلى البحرين، إذ اعتبرتهم من رعاياها في المنطقة، وبالتالي قامت بإجراء تسهيلات لهم في التجارة أو الانخراط في سلك الشرطة، بل إنها سعت إلى حمايتهم بتشريع قوانين، وتشكيل محاكم خاصة ومنفردة عن بقية القاطنين.
الصلات التاريخية بين البحرين وكل من إيران والهند واضحة، فالصلة الإيرانية بالبحرين ترجع إلى ان البحرين رزحت تحت الحكم الفارسي لفترة ليست بالقصيرة، أما الصلات التاريخية بين البحرين والهند فتتمثل في العلاقات التجارية، وإدارة «البانيان» لدفة الجمارك البحرينية طيلة حكم الشيخ عيسى بن علي، هذا الإرث التاريخي دفع كلا من الهنود والإيرانيين المهاجرين إلى اختيار البحرين دارا للإقامة والاستقرار.
السمات الحضارية والمدنية للمجتمع البحريني، جعلته مجتمعا منفتحا متقبلا للآخر، فلذلك لم يجد الوافدون إلى البحرين حرجا في الإقامة فيها، إذ أتيحت لهم حرية العبادة والعمل وإقامة العلاقات. ويعتبر الإيرانيون من أبرز العناصر الأجنبية التي وفدت إلى البحرين للإقامة الدائمة. ويشار إلى أنهم قطنوا البحرين منذ احتلال الشاه عباس الأول البحرين العام 1602، بعد طرد البرتغاليين منها. وظلت البحرين منذ ذلك التاريخ تحت الحكم الفارسي ما يقارب المئة والخمسين عاما، حتى قدوم أسرة آل خليفة إليها العام 1783. هذا الوضع السياسي عمل على ازدياد الهجرة الفارسية إلى البحرين، واندمج الإيرانيون بالمجتمع البحريني لدرجة أن بعضاً منهم ذاب في المجتمع الزراعي وفقد هويته ولغته الفارسية. واستمرت هذه الهجرات حتى بعد انتهاء السيطرة الفارسية على البحرين، إلا انه من الملاحظ أن غالبية الهجرات المتأخرة كانت من منحصرة في طبقة التجار التي كونت ثروات طائلة من تجارتها في الخليج، وقد رفضوا الاندماج مع المجتمع، محتفظين بلغتهم وعاداتهم الفارسية، متكتلين في أحياء خاصة في المحرق والمنامة عرفت كل منها باسم فريج العجم، وقد شكلوا ما يقارب 4 في المئة من مجموع السكان في تلك الفترة.
وقد ازدادت الهجرات الإيرانية في فترة الثلاثينات من القرن العشرين نتيجة لسياسة شاه إيران رضا بهلوي العسكرية، إذ فرض الخدمة العسكرية الإجبارية على الشعب الإيراني، وفي الوقت ذاته ضغط على السكان العرب «الهولة» - أي الحولة وتطلق على العرب الذين نزحوا من الخليج واستقروا في مناطق الساحل الفارسي- في إقليم خوزستان وأجبرهم على الرحيل، ما حدا بالكثيرين منهم وخصوصا سكان الساحل الشرقي المقابل للخليج بالهجرة إلى البحرين وما جاورها. هذه الجالية التي قطنت البحرين لم تقطع الصلة بجذورها وانتماءاتها القومية في إيران، إذ بدأت تمارس نشاطها التعليمي منذ العام 1913، حين قامت بتأسيس مدرسة نظامية لتعليم البنين، وتتبع في إدارتها لمأتم العجم الكبير في المنامة، وبقيت هذه المدرسة لمدة سنتين في ساحة ملاصقة للمأتم من دون اسم يذكر عليها حتى انتقلت في العام 1915، إلى منزل مؤجر من حاجي جمعة بن ناصر بوشهري، وأطلق عليها اسم «مدرسة الاصطلاح المباركة»، ثم انتقلت إلى مبناها الجديد قرب مدرسة الزهراء بالمنامة، تحت مسمى «مدرسة الاتحاد الوطني»، وظلت قائمة حتى جاءت الثورة الإيرانية العام 1979، وعلى إثرها تغير اسم المدرسة إلى «مدرسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في البحرين»، لكنها أغلقت في العام 1996 بأمر حكومي بسبب الحوادث الأخيرة التي شهدتها البحرين.
الإيرانيون الذين انتقلوا للعيش في البحرين وعرفوا باسم العجم أصبحوا يمثلون هاجسا للإدارة البريطانية إبان حمايتها على البحرين، إذ بلغ عددهم في مطلع القرن العشرين ما يربو على 12 ألفا، لذلك استغل شاه إيران هذا الوجود الإيراني الكثيف في البحرين ذريعة للتدخل في شئونها، ناهيك عن الإرث التاريخي، والذي ما انفكت إيران تلوح به مرارا للحكومة البريطانية، لذلك أعلن المعتمد البريطاني في البحرين الميجر ديكسون في نوفمبر/ تشرين الثاني 1920 عن قرار الحكومة البريطانية والمتمثل في أن الرعايا الأجانب في البحرين بمن فيهم الفرس والهنود سيخضعون لحماية الحكومة البريطانية، ولذلك أصبح الإيرانيون ضمنيا من رعايا بريطانيا بحسب القانون الأخير، فيجرى محاكمتهم في محكمة خاصة يشرف عليها المعتمد نفسه. هذا الإجراء هو بمثابة محاولة لاحتواء الجالية الإيرانية في البحرين حتى لا تستخدمها حكومتهم كورقة ضغط على البريطانيين في المنطقة.
فقد بدأ الحس القومي الإيراني في الظهور بشكل لافت للنظر وذلك من خلال ما نشرته الصحف الإيرانية بين عامي 1921 و1922، اذ كان يمثل هجوما عنيفا على السلطات البريطانية في البحرين في ظل ما تسميه تلك الصحف بمعاناة الطائفة الفارسية في البحرين، الأمر الذي أقلق الحكومة البريطانية التي رأت ان من الضروري الإسراع في تنفيذ الإصلاحات في البحرين، وهذا ما أشارت إليه في رسالة بعثها مكتب الشئون الخارجية في لندن إلى مكتب الهند في ديسمبر/ كانون الأول 1922 والتي تنص على «ان اضطهاد السنة للشيعة في البحرين قد يؤجج مشاعر العداء ضد بريطانيا في إيران»، ونظرا لذلك قام المعتمد البريطاني في البحرين الميجر ديلي بتعيين أحد الأشخاص من أصول فارسية يدعى محمد شريف قطب الدين برئاسة البلدية، كما أسندت إليه مهمة الإشراف على فرقة من الحرس لحفظ النظام في المنامة، وقد منحه الإنجليز الرتبة الفخرية لحكومة نائب الملك البريطاني في الهند المعروف باسم «خان بهادآر». ويشير المؤرخ البحريني الشيخ محمد علي التاجر إلى ان هدف ديلي من هذا الإجراء هو «ابتغاء حزب له من الإيرانيين».
لم يكن الأمر مرهونا بالسياسة الخارجية فحسب بل تعرضت الجالية الإيرانية في الداخل للمضايقات بسبب الاختلاف العرقي مع الكل والتباين المذهبي مع البعض، خصوصا مع تزايد الاحتقان المذهبي الذي خلفته السياسة البريطانية، والذي أدى إلى حوادث دموية ومصادمات عنيفة شهدتها سوق المنامة في العاشر من مايو/ أيار 1923 بين الإيرانيين والعرب من أصول نجدية، أدى إلى تساقط الكثير من القتلى والجرحى من الطرفين، وعلى أثر ذلك غدت المحرق وقرى البديع وسترة وعالي والرفاع على شفا حرب أهلية طاحنة. توقفت هذه المشاحنات مع صدور قانون الجنسية البحرينية للعام 1938 ومعه حصل غالبية الإيرانيين على الجنسية البحرينية، لكن احتفاظ الايرانيين بلغتهم وعاداتهم الفارسية وانعزالهم في أحياء خاصة حالت دون الانخراط تماما في المجتمع البحريني، ولكن على رغم ذلك تعايش الجميع في ظل الوطن الواحد، حتى مع اشتداد المد القومي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي ظل الوضع القائم لا يخلو من مناوشات بسيطة تتمثل في تعرض مواكب عزاء العجم لبعض المضايقات من الشباب الذي يرفضهم على أساس قومي خصوصا بعد سيطرتهم على الوظائف العليا في قطاعي النفط والبنوك، لكن ما نراه اليوم ينذر بخطر عميق ما لم يتصدى له الوطنيون بروح وطنية خالصة، وعليه ينتابنا الخوف من اللجوء الى ما يعرف بحقوق الأقليات خصوصا في حال انعدام وجود ضوابط تحميهم من تعدي وبطش الآخرين، والزج بهم بين الحين والآخر في أتون التواطؤ مع موطنهم الأم بغية التستر على أزمات سياسية، فوجود العمق الطائفي في البحرين أمر لا يمكن تجاوزه، لكن ينبغي التعامل معه بشكل طبيعي من دون اللجوء إليه في حالتي توزيع الاستحقاقات الوطنية أو تحقيق مآرب طائفية أو شخصية. كما يجب تفهم الحوادث التاريخية على انها ناتجة عن ظروف سياسية محلية وخارجية لها من الخصوصية التاريخية ما يلزم عدم الزج أو التلويح بها عند أي مواجهة سياسية أو حوار وطني.
ربما حان الوقت، وأصبح لزاما على الجميع تبني سياسة علمية واضحة وذات منهجية سليمة بعيدة كل البعد عن الذاتية والطائفية من أجل تكملة مسيرة وطن حر ونزيه يضم الجميع
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 1473 - الأحد 17 سبتمبر 2006م الموافق 23 شعبان 1427هـ