العدد 1469 - الأربعاء 13 سبتمبر 2006م الموافق 19 شعبان 1427هـ

الإسلام... عملية الفصل بين النظرية والتطبيق

مظاهر اللاجامي comments [at] alwasatnews.com

.

بداية أقول إنّ الإسلام في هذه المقاربة هو مجرّد نموذج، فعملية الفصل بين النظرية والتطبيق، أو بين المثال والواقع، هي حيلة ايديولوجية، يتخذها العقل الدينيّ والايديولوجيّ محاولة لجعل النظرية في موقع متعالٍ عما يشوبها من تطبيقات قد تسيء للنظرية، وهذا ينطبق على الأديان كافّة وعلى الأديان العلمانية على حدّ تعبير عالم الاجتماع الفرنسيّ آلان تورين، وأعترف بأن ما أحالني إلى التفكير في عملية الفصل والوصل هو المفكّر علي حرب خصوصاً في كتابه «النص والحقيقة» بأجزائه الثلاثة، إذ يكرّر دائماً أن عملية الفصل هي مغالطة وحيلة ايديولوجية، غير أنني أختلف معه في السبب لا في النتيجة...

لا شكّ أن الموضوع الذي أنا بصدد مقاربته يعتبر موضوعاً خصباً للأدوات المعرفيّة والنقديّة، ولقراءات مغايرة، ولعلّه يثير الحساسية الدينية والايديولوجية، أقول لعلّه وأنا أدرك تماماً أن هناك من حرّاس العقيدة من لا يتصوّر أن يقرأ الإسلام كتجربة روحيّة متعالية بمفاهيم حديثة بعد أن تعرّى نصوصه من قدسيتها، وهذا ينطبق أيضاً على شرطة الفكر الايديولوجيّ، ماركسياً كان أم قوميّاً، وفي نموذجنا أقول بتعرية النصوص من القدسيّة لا لإنكارها، بل لأني أرى القدسيّة تشكّل عائقاً وجوديّاً في تناول تجربة شحنت على مدى أربعة عشر قرناً بشحنة تقديسية أصبح من غير الممكن مقاربتها بطريقة وبمفاهيم حديثة، ظنّاً منهم أن هذه التجربة متعالية حتى في تجلّياتها التاريخية الواقعيّة، وفي تجلياتها الفكرية كمجموعة من التصورات التي تشكّل مفاهيم هذه التجربة، أقول إنها شحنت على مدى أربعة عشر قرناً وأنا مدرك تماما أن عصور الإسلام في القرون الأربعة الأولى من ظهوره وصولاً إلى القرن الخامس الهجريّ كان أكثر انفتاحاً في مقاربة النصّ والمفاهيم الإسلامية، فنحن مقارنة بعصورنا الأولى نعتبر الأشد ممانعة للتفكير، فمساحة النقد عندنا تعتبر متدنّية حين نعرف أن النقاش وصل في القرون الأولى لتناول القرآن وما إذا كان مخلوقاً أم منزلاً، أو إذا كان معجزاً أم غير معجز بحسب رأي النظّام المعتزلي وابن الراوندي، أو القول بحقيقة مفارقة للنصّ الديني، وإمكان القبض عليها خارج إطار النصّ عند ابن رشد، وخصوصاً حين نموضع هذه الأفكار في فضاء معرفيّ كان يرى أن الحقيقة منجزة في النصّ الذي أغلق الحقيقة بين دفتي كتاب...

يقول الكاتب الشيخ علي آل موسى في كتابه (ثقافة الإسلام وثقافة المسلمين، الاتصال والتقاطع أم الانفصال والقطيعة؟) الصادر عن كتاب البصائر برقم واحد في عام 2005، وهي سلسلة تصدر عن مركز الدراسات والبحوث الإسلامية في حوزة الإمام القائم العلمية في فقرة (منتج الإسلام ومنتج المسلمين) ما نصّه «وهكذا نميّز بين الأمور الآتية: 1 - الدين / الفهم الدينيّ 2 - فكر الإسلام / وفكر المسلمين 3 - ثفافة الإسلام / وثقافة المسلمين» ثم يقول «فقد تستلهم من ثقافة الإسلام وتطبّقها، فتحمل المطابقة بين ثقافتها وثقافته وقد تفهمها خطأ، فيحصل الافتراق بين ثقافة الإسلام الطاهرة، وبين الفهم والتطبيق اللذين لم يحالفهما الصواب»، وأجد أن خير ما أختزل به محاولة الفصل هي العبارة الشهيرة «رأيتُ إسلاماً بلا مسلمين، ورأيت مسلمين بلا إسلام»، والتي قيلت على يد أحد أبرز دعاة الإصلاح الدينيّ في عصر النهضة...

قبل أن أنتقل إلى النقطة الثانية أودّ أن أقول إني لا أقارب الإسلام هنا كتجربة متعالية، فوق تاريخية، فالإسلام هنا بغضّ النظر عما إذا كان ذا مصدر إلهيّ أو مصدر تاريخيّ بشريّ أو من هذا وذاك مجموعة من النصوص اللغوية ذات الكثافة الدلالية التي تصل في كثير من الجزئيات إلى حدّ التعارض والتناحر وحرب الدلالات ومن خلال التعامل مع القرآن كنصّ لغويّ ستنتج لنا مقاربة مغايرة، إذ إن التعامل السيميائي مع النصوص التأسيسّية يفقدها كثيراً من شحنتها التقديسيّة ورمزانيتها الدينية...

حين نستثمر بنية التصوّر في السميولوجيا ونحاول مقاربة موضوعنا بهذه الأدوات سينتج لنا أن يكون الدالّ هو النصّ القرآني الذي ستكون دلالته ذات بعدين، الأول هو الصورة الذهنية التي ستمثّل حينها الفكر الإسلاميّ بجميع تجلياته المذهبية والفكريّة، وسيكون البعد الثاني، وهو الشيء الخارجيّ، هو الترجمة الواقعية للصورة الذهنيّة، ويجب أن ندرك أن أبعاد بنية التصوّر لا يمكن أن تفصل عن بعضها بعضاً، فلا نصّ من غير قراءة والكتاب بين دفتي كتاب لا ينطق بل ينطق به الرجال، ولا يمكن اعتبار النصّ القرآني تجربة متعالية فقط، ليست لها ترجمة واقعيّة، وذلك لأن النصّ القرآني عند المسلمين هو مشروع خلود ومشروع حياة في الوقت ذاته...

ولو عدنا إلى مقولة الشيخ علي آل موسى فسندرك تماما محاولة الفصل وذلك لتبرئة النصّ من بؤس الواقع الذي ترجم من خلال القراءات البشريّة لهذه النصوص التأسيسيّة، وذلك لإداركهم أولاً أن هذا الواقع متخلّف بائس، وثانياً لأن القول بعدم الفصل يعطي الأحقيّة للمذاهب الإسلامية في أن تكون مختلفة في هذه الأصول وهذا ما عجز عنه الفكر الإسلامي بشتّى أطيافه المذهبيّة وتلويناته الفكريّة... وما يجعلني أقول بمحاولة التبرئة هو أن القراءات الثانوية جميعها انطلقت من بنية النصّ ذاته ومن احتمالات دلالته، وما المذاهب الإسلامية بهذا التحديد السميولوجي إلا تجلّ من تجليات الدلالة القرآنية، حتى أن محمد أركون وصل إلى مرحلة أبعد من ذلك وقال إن الظاهرة الإسلامية ككلّ ما هي إلا احتمال من احتمالات الظاهرة القرآنية، وذلك في كتابه تاريخية الفكر العربيّ الإسلاميّ، فالتاريخ الإسلاميّ هو حرب لدلالات منتجة في الماضي وكلّ مذهب يحاول إقصاء الدلالات المغايرة ووسمها بالكفر تارة وتارة أخرى بالضلال أو الزيغ عن مذهب الحقّ / الدلالة المنتجة، وقد تمثّلت في مقولة الفرقة الناجية وذلك في المقولة الكلاسيكية «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى» عند الشيعة، أو «إني مخلّف فيكم الثقلين، كتاب الله وسنتي» عند السنة، مع ملاحظة أن هذه المقولة مدار خلاف بين الطائفتين وما إذا كانت الكلمة الصحيحة سنتي أم إنها عترتي أهل بيتي...

وفي العملية السياسية نجد حرب الدلالات بشكل أكثر وضوحاً وبعداً عن التلوينات العقائدية المحضة فبين من يرى دولة الخلافة الواحدة (السنّة) وبين من يكرّس الانتظار والسلبيّة بانتظار المخلّص (الشيعة)، حتى مجيء الخميني بمقولة ولاية الفقيه، وبين من يرى شورى الفقهاء، وبين من يرى مقولة ان الدولة الإسلامية أو الخلافة ليست من النصوص الدينية (الشيخ علي عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم)...

من هذا أقول إن النصّ القرآني ذو طبيعة دلالية مكثّفة، تجعل جميع القراءات تجد تأصيلها في هذه النصوص، فحتى التفخيذ والتطبير والعادل المستبدّ عند بعض فقهاء الشيعة يجد تأصيلاً في هذه النصوص، كما نجد الإرهاب وممارسة العنف عند بعض فقهاء السنة مؤصّلاً بهذه النصوص، حتى وصلنا لأن تجد مفاهيم الأنا والأنا الأعلى والهو عند سيغموند فرويد تجد تأصيلا لها في النصّ القرآني وذلك عند علي حرب في كتابه أسئلة الحقيقة ورهانات الفكر، وهنا لا أقول بصحّة هذه القراءة أو تلك، فليس في الدلالة وعملية إنتاجها ما يخوّلنا أن نحكم بصحتها أو خطئها، لكننا يجب أن ندرك أن الأزمة تكمن في عملية التلقّي، فالنصّ باعتبار كثافته الدلالية يتيح لاحتمالات مغايرة، وما نقوم به نحن هو جعل هذا النصّ متناسباً مع مألوفاتنا الاجتماعية وعقدنا النفسيّة والسياسية، باختصار، فإننا قمنا بجعل النصّ ناطقاً عن بؤس واقعنا الحياتيّ في جميع أبعاده، حتى أصبحت قراءتنا للنصّ القرآني نصّاً آخر لا يمكن تجاوزه وهنا بالذات أجد أحد عوامل الأزمة التي يعيشها الفكر الإسلاميّ...

وعوداً على بدء أقول إن العقل الديني والعقل الايديولوجي بجميع تجلياتهما يستخدمان عمليّة الفصل كستار يستتران به من واقعهما لتبرئة الأصول، سواء كان هذا الأصل هو (القرآن) أو (رأس المال) لكارل ماركس، ما نتج لنا بمقولاتهم عدّة أصول (صحيحة) وتطبيقات (خاطئة)..

العدد 1469 - الأربعاء 13 سبتمبر 2006م الموافق 19 شعبان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً