الخطاب العنيف الذي أطلقه الرئيس الأميركي جورج بوش أمس الأول ضد العالم العربي/ الإسلامي باسم مكافحة «الإرهاب» يعتبر خطوة تصعيدية جديدة في حرب لا يعرف متى تنتهي وأين. فالكلام العشوائي حين يصدر عن رئيس أقوى دولة في العالم من دون مناسبة أو بمناسبة يجب التفكير فيه ليس لأهميته الفكرية وإنما لرصد تلك النزعة الايديولوجية التي تعكس كرهاً موروثاً للعرب والمسلمين.
كلام بوش ليس سياسياً وإنما يتضمن كمية من الايديولوجيا التي تعتمد نهج تسعير العداء تحت مظلات تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان وحريات الشعوب. وهذه المظلات الواقية يبدو أنها لم تنجح حتى الآن في إقناع الناس بعدالة الكلام الذي يتفوه به رئيس دولة يفترض أنه يفكر في مدلول الألفاظ التي يطلقها من دون رقابة أو حرص على معانيها وخصوصاً أنها تتناول قناعات شعوب تمثل عددياً خمس البشرية.
بوش اتخذ من إيران حقلاً لتجربة قذائفه الايديولوجية. ولكنه تجاوز في كلامه حدود الجمهورية الإسلامية ليتطاول على المذاهب والتاريخ والجغرافيا والتجارب السياسية التي أنجزت خلال 15 قرناً. فالرئيس الأميركي أشار إلى الخلافة الإسلامية والمؤمنين بالله محاولاً إثارة حالات من الرعب المفتعل والحساسيات المضمرة من حضارة أسهمت في بناء العمارة الإنسانية في عالمنا المعاصر.
مشكلة بوش أنه لا يميز بين الخلاف السياسي والأبعاد الايديولوجية. وهو لا يستطيع التفرقة بين مشكلة سياسية مع بلد معين وبين تلك الأبعاد الدينية التي تمس هوية جمهور من المؤمنين ينتشر في أكثر من 56 دولة ويتوزع على جاليات ممتدة في مختلف القارات الخمس. وهذا النوع من الكلام الايديولوجي الذي دأب بوش على إطلاقه من دون تفكير أو تمييز أسهم في رفع مستوى كراهية الشعوب العربية والإسلامية للإدارة الأميركية وأعطى ذرائع كافية لكل التيارات المناوئة للولايات المتحدة لزيادة الاحتقان والحض على المواجهة والمقاومة.
مشكلة إدارة بوش أنها أسوأ من رئيسها. فهذه الإدارة تتعامل مع الإسلام كايديولوجيا وتتجاهل ذاك البعد الديني/ الإيماني المتوارث والموروث. وهذه المسألة تعتبر واحدة من الأخطاء المميتة في السياسة الأميركية. فإدارة بوش تحاول تكرار تجربة إسقاط الأنظمة الشيوعية (السوفياتية) حين اتبعت أسلوب البث الإعلامي والتصريحات اليومية من خلال الصحف والكتب ومحطات الإذاعة والتلفزة والأشرطة السينمائية وغيرها من أساليب مخادعة. وتجربة كهذه ربما نجحت في إسقاط أسوار المعسكر الاشتراكي من خلال النفخ في الأبواق إلا أنها لن تنجح مع الإسلام والمسلمين. فالعالم الإسلامي ليس معسكراً مغلقاً وأبوابه ليست موصودة ولا تحكمه دولة بوليسية ولا تسيطر على موارده لجنة مركزية أو هيئة حزبية تعبث بحياة الناس وتبعثرها إلى ألوان وأهواء.
هذا النمط من السلوك الحزبي/ الفوقي غير موجود في العالم الإسلامي وبالتالي فإن المراهنة على إسقاطه بنفخ الأبواق من خارج الأسوار سياسة ساذجة تنقصها الدراية وتحتاج إلى علوم لمعرفة حقيقة الإسلام ومدى تعلق المسلم بدينه وافتخاره بتاريخه وابتكاره لتلك الحضارات والإنجازات التي حققها على مدى المحطات الزمنية.
تعامل إدارة بوش مع الإسلام كايديولوجيا تشبه الشيوعية أو الاشتراكية أو الليبرالية أو أي مدرسة سياسية أو فلسفية يعتبر من الأخطاء القاتلة في السياسة الأميركية التي تقودها من «البنتاغون» أو «البيت الأبيض» مجموعة شريرة تعبد المال والحروب وتمثل مصالح مافيات (لوبيات) النفط ومؤسسات التصنيع العسكري.
والكلام الذي صدر تباعاً عن بوش عن قصد أو عن غير قصد (زلات لسان) مستخدماً مفردات كالفاشية أو الصليبية أو الإرهاب أو الطغيان أو غيرها لا يساعد واشنطن على تفكيك العالم الإسلامي كما كان أمر المعسكر الاشتراكي. فهذه المفردات مردودة أصلاً ولا معنى لها ولا تأثير لوقعها على أسماع أو وجدان الشعوب. فهذا الكلام لا قيمة له ووظيفته الوحيدة هي تشكيل المزيد من القناعات المضادة لكل ما تمثله الولايات المتحدة.
يدري أو لا يدري
إذا كان بوش يدري - أو لا يدري - أن كلامه لا طعم له ولا رائحة وهو لن يؤثر قيدة أنملة في المواقف ولن تتزحزح الشعوب الإسلامية عن قناعاتها وعقيدتها والتزاماتها الدينية... فلماذا إذاً يحرص كل فترة على إطلاق نعت ضد المسلمين؟ ولماذا يتخذ من الإسلام واسطة لتبرير وجوده في «البيت الأبيض» ويخترع معارك ايديولوجية وهمية تترك سلبيات كثيرة في التعامل اليومي مع جماعات مؤمنة؟
مشكلة بوش تبدو معقدة وهي في جوهرها تمزج نزعة ايديولوجية شخصية كارهة للإسلام وموروثة عن أجداده بنزعات ايديولوجية مستحدثة ومتسلحة بمجموعة أفكار مريضة يستحق أصحابها دخول المستشفى للعلاج من أعراضها. الرئيس الأميركي ينتمي إلى سلالة عائلة عُرف عنها حقدها على الإسلام بصفته رسالة أُنزلت عقاباً للمسيحية. هذا الجانب الموروث استغلته تلك الزمرة التي تتحكم في مفاصل القرار في «البيت الأبيض» وحاولت منذ أكثر من خمس سنوات الاستفادة منه وتوظيفه في «حروب دائمة» و«ضربات استباقية» و«فوضى أمنية» لمصلحة تشغيل الصناعات العسكرية المتحالفة مع تكتلات احتكارية تتمثل في مافيات الطاقة والنفط.
إلا أن الجانب الايديولوجي الموروث والمستحدث لا يكفي لتبرير هذا الإصرار على فتح معارك سياسية مستمرة ضد العالم الإسلامي. فالايديولوجيا هي مولد الحركة التي تضخ الأحقاد في عجلات الآلات العسكرية. ولكن أساس هذا اللغط الدائم يعود إلى مجموعة أسباب تحالفت لصنع هذه الاستراتيجية المتوحشة في رؤيتها للآخر. ومن تلك الأسباب موقع العالم الإسلامي الجغرافي - الاستراتيجي في وسط العالم (منطقة اوراسيا) ومصادر الثروة الموجودة في خزانات الغاز والنفط ومكانة الإسلام في صنع مستقبل الإنسان... وأخيراً وجود دولة صهيونية تشكل بالنسبة إلى هذا التيار قطعة أرض موعودة لفئة من الناس.
الجانب الاستراتيجي هذا يشكل البعد الخارجي لسياسة الحفنة الشريرة التي تدير مفاتيح القرار في واشنطن. ولكن هناك مجموعة أسباب داخلية تشكل إضافة لونية على هذا الخطاب الحاقد. فبوش في معركة حزبية داخلية وهو على أبواب انتخابات تشريعية نصفية ستعقد في نوفمبر/ تشرين الثاني، وكل المؤشرات تدل على وجود تبدل في مزاج الناخب الذي بدأ يتململ من سذاجة خطاب الحزب الجمهوري. وبوش يعتبر أن التخلي عن هذا الخطاب المتهلهل يشكل ضربة نفسية لشخصيته التي صنعها من مجموعة ألفاظ مركبة من روافد موروثة ومستحدثة. ولهذا السبب لجأ بوش وأعوانه إلى إطلاق خطابات نارية ضد العالم الإسلامي وتسويق مفردات بذيئة بقصد التحريض وبهدف كسب أصوات ناخبين لا يميّزون بين «الحمار» و«الفيل».
بوش الذي خاض سلسلة حروب ضد المسلمين في الخارج خلال السنوات الخمس الأخيرة، انتقل الآن إلى طور جديد في خطابه ويتمثل في نقل المعركة من الخارج إلى الداخل للدفاع عن استراتيجيته في محاولة منه لصد موجة الرفض التي يقودها وينظمها الحزب الديمقراطي.
حزب بوش (الجمهوري) يتحايل على الناس لاستدراك الكثير من الأخطاء والثغرات من خلال الرد على المعارضة الأميركية بإطلاق مفردات جديدة لاستخدامها في المعارك الانتخابية ضد الحزب الديمقراطي. ويعتبر بوش أن هذه المفردات تشكل وسائط ايديولوجية لتعبئة الشارع وحشد الأنصار من خلال رفع نسبة التوتر وتخويف الناس من خطر عالمي وتاريخي يتمثل في الحركات الإسلامية ونظرية الخلافة وإعادة بناء «امبراطورية» جديدة تمتد من إندونيسيا إلى إسبانيا.
الخطاب العنيف الذي أطلقه بوش أمس الأول يأتي في هذا السياق التصعيدي في معركة انتخابية داخلية. إلا أن هذا الجانب الايديولوجي لا يكفي لتفسير حدة الكلام والمفردات وإنما هناك جوانب أخرى تتطلب الانتباه إلى خطورتها وهي لا شك تتعلق بالمشروع الاستراتيجي الأميركي الذي يعتمد سياسة التقويض انطلاقاً من أفكار شريرة تقوم على فكرتي «الحرب الدائمة» و«الضربات الاستباقية»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1462 - الأربعاء 06 سبتمبر 2006م الموافق 12 شعبان 1427هـ