هل يجوز توجيه الانتقاد إلى رئيس الدولة... وكيف ومتى وأين ومن ولماذا؟ أم أن ذلك يدخل في باب المحرمات؟!
وإجابتي السريعة هي نعم يجوز، والتفاصيل سنأتي عليها فيما بعد، لأن القضية معقدة، وهي تحتاج إلى قدر كبير من المعالجة والتناول الموضوعي، تعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله...
مناسبة الموضوع تكمن في الضجة المثارة حالياً في مصر المحروسة، بشأن حدود حرية الصحافة في نقد رئيس الجمهورية، بما في ذلك ما يراه البعض من تعمد الإساءة إلى شخص الرئيس ومنصبه، الأمر الذي ترجمه تقرير عاجل من المجلس الأعلى للصحافة بعنوان «تقرير الممارسة الصحافية في الفترة من 15 يونيو/ حزيران إلى 15 أغسطس/ آب 2006» ويقع في نحو 20 صفحة.
وقد رصد التقرير خمسة أخطاء في الممارسة الصحافية. هي على التوالي، نشر الأخبار المجهلة، والخلط بين التحرير والإعلان، والتجريح الشخصي والإساءة المتبادلة بين الصحافيين، واستخدام الألفاظ والعبارات غير اللائقة، وأخيراً الإساءة إلى رئيس الدولة.
وعلى رغم أهمية هذه الأخطاء وخطورة استمرار تكرارها في الصحف، فإنني وغيري نعتقد أن التقرير المذكور والضجة المثارة بشأنه، تتركز أساساً على البند الأخير، وهو ما أراه إساءة متعمدة إلى رئيس الدولة، على رغم أن معالجة التقرير له جاءت فقط في صفحة ونصف من بين صفحات التقرير، وأنها تركزت على ما نشرته صحيفة واحدة هي صحيفة «الكرامة» الناطقة باسم حزب الكرامة تحت التأسيس.
ويقول التقرير في خاتمته نصاً: «من المهم أن ننبه إلى خطورة تنامي ظواهر جديدة لم تشهدها الممارسة الصحافية من قبل في الصحافة المصرية، ولعل أبرزها التشهير برئيس الدولة، والإساءة إليه من دون سند أو دليل في بعض الصحف، على رغم أن الكثير من هذه التجاوزات تشكل جريمة جنائية، تعطي لرئيس الدولة حق مقاضاة من قاموا بهذه التجاوزات...». وما أن صدر هذا التقرير حتى أثار ردود فعل مختلفة، وانقسم الصحافيون وأصحاب الرأي، ما بين اتجاه مؤيد لاتخاذ إجراءات تأديبية وقانونية ضد الذين انتقدوا الرئيس أو أساءوا إليه، استنكاراً لأن تصل حرية الرأي إلى هذا الحد الذي يرونه تجاوزاً، واتجاه آخر يرى أن معايير حرية الصحافة الحقيقية تعطي للصحافي والكاتب، حرية انتقاد رئيس الدولة وكل موظف عام، وحتى لو حدث شطط في هذا النقد، فإن معالجته لا تتم بتكميم الصحافة وكسر أقلام الصحافيين المعارضين وإغلاق الصحف المشاغبة وإطفاء كل الأنوار...
وعلى رغم أننا أجبنا في البداية بأنه يجوز انتقاد الرئيس، فإننا ندخل إلى هذا الموضوع عبر خمسة محاور، هي:
- أولاً: ينبغي التسليم بأن حرية الصحافة والرأي والتعبير، هي القاعدة الأساسية للديمقراطية ولذلك فإن تكميمها أو حصارها بالقوانين الجائرة أو العقوبات المشددة والإجراءات المقيدة، إنما هو دليل صريح على معاداة الديمقراطية كقاعدة عامة.
ومن الواضح أن هذه القضية يتنازعها تياران متصارعان، تيار يؤمن حقاً بحرية الصحافة ويعمل على صيانتها، وتيار مناقض يعمل على تقييدها ولكل أسبابه... لكن لأن ديمقراطيتنا لم ترسخ بعد، فإن من الضروري تفعيل حرية الصحافة والرأي، وإطلاقها، وتحمل أخطائها وتصويب شططها، فهذا أخف من ضرر مصادرتها، وإخراس صوت الرقابة الشعبية التي هي، الجناح الثاني مع الرقابة البرلمانية.
- ثانياً: مقام رئيس الدولة محفوظ ومكانه محترم، محاط بضمانات سياسية وأخلاقية وقانونية، باعتباره رأس الدولة وممثلها الأعلى، وغني عن البيان أن مقام ومكانة الرئيس المنتخب، غير مكانة الرئيس المغتصب للسلطة، فالأول جاء بأصوات الناخبين وإرادتهم، وبالتالي فهو يمارس سلطاته وهو يدرك، أو يجب أن يدرك، أن الذين انتخبوه لهم حق مساءلته ومحاسبته ونقده بكل الأساليب المشروعة، والأمر بالضرورة يختلف في حال الرئيس المغتصب، الذي ينفرد بكل السلطة من دون قبول لنقد أو محاسبة، مع ضيقه التام بالحرية أساساً.
أما سب رئيس الدولة والقذف في حقه وتعمد الإساءة إليه وإهانته، فهو عمل تجرمه القوانين في بلادنا، وخصوصاً المادة رقم 179 من قانون العقوبات، التي تقضي بعقوبة الحبس وجوبياً، على من يرتكب هذا الفعل، ناهيك عن السلطات الواسعة التي يتمتع بها رئيس الدولة، ما يؤكد تحصين مقام الرئيس بأكبر قدر من الحصانات.
إلا أن الميراث القضائي يدلنا في المقابل، على توجه آخر يؤكد ما نذهب إليه من حق انتقاد الرئيس، ونعني الحكم التاريخي لمحكمة النقض المصرية في العام 1934، والذي يؤكد ضرورة التعامل بتسامح كبير مع نقد كل من يتصدى للمناصب والنيابة عن الأمة، حتى لو تجاوز هذا النقد، وربما اشتط في حق كل مسئول، ولذلك فالأمر لا يستحق العقاب، كما تقول محكمة النقض.
- ثالثاً: نعتقد أن نقدا عمال الرئيس وسياساته وغيره من المسئولين كباراً وصغاراً، هو حق وواجب تمارسه الصحافة الحرة، أداءً لصميم واجبها، يرعاها الدستور، ويتحمل الرئيس نفسه مسئولية صيانتها وحمايتها، بصرف النظر عن حملات التحريض ضدها، التي يمارسها محترفو النفاق والخداع والتضليل.
وفي ظل ظروف بلادنا الراهنة، وتشعب السلطة التنفيذية وسطوتها على السلطات الأخرى، فإن ممارسة الصحافة الحرة لهذا الحق والواجب، تصبح مهمة صعبة محاطة بالمخاطر ومهددة بالعقاب، لكنها مع ذلك مطالبة بأداء رسالتها، بما في ذلك نقد ممارسة السلطات الواسعة التي أعطاها الدستور الرئيس باعتباره رئيس السلطة التنفيذية.
ولذلك، فإن ما يخضع بالضرورة للنقد - السياسات الخارجية والداخلية، الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية، وحال الفقر والبطالة، الفساد والإثراء غير المشروع، الأمية والأمراض، كوارث القطارات والعبارات والحافلات، وقبل ذلك وبعده الأوضاع السياسية والإصلاحات الديمقراطية، وطريقة اختيار الوزراء وكبار موظفي الدولة... إلخ. ولما كان الدستور قد أعطى لرئيس الدولة مسئولية رئاسة السلطة التنفيذية، ورئاسة المجلس الأعلى للقضاء، والمجلس الأعلى للشرطة، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، وغيرها، فإن أول ما يدخل في نطاق النقد بالضرورة، كيف يدير الرئيس الدولة، وكيف تدير الدولة وحكومة الرئيس أمور المجتمع وتعالج أزماته وتحل مشكلاته، وكيف تحافظ على استقلاله الوطني وأمنه القومي، وكيف تقود توجهاته وتحدد اختياراته وتستجيب لمطالبه وتستمع لآرائه.
فإن كان كل هذا خاضعا للنقد، مع تشعبه وتعقد مساراته، ألا نتوقع شططاً في بعض النقد، ما يستدعي معالجته بالروية والحكمة والموعظة الحسنة، لا بالشطط المضاد، وصولاً لاستدعاء عقوبات الزجر والحبس والمصادرة!
- رابعاً: أشم رائحة حريق قادم، وأشعر ببوادر خطر داهم، يهدد الهامش القائم لحرية الصحافة والرأي، وبالتالي يهدد أحلام وأشواق التطور الديمقراطي المنشود، ويصادر على دعوة الجماعة الصحافية والقوى الديمقراطية بإطلاق حرية الصحافة والتعبير، وتحريرها من باقي العقوبات السالبة للحرية، سواء في قانون العقوبات أو الصحافة، والطوارئ وغيرها من القوانين.
والخطر المقصود يأتي من علو أصوات المحرضين وتزايد حملات التحريض ضد الصحافة والصحافيين، بحجة الشطط في النقد والتطاول على مقام الرئاسة، وعلى رغم أننا ضد هذا وذاك، إذ لا نقبل الإساءة والإهانة لأي إنسان، وخصوصاً لرئيس الدولة، فإن كتيبة المحرضين تريد استغلال خطأ هنا أو تجاور هناك، لكي تهدم المعبد وتعرقل مسيرة حرية الصحافة والرأي وتصادر حق النقد، تمسكاً بعقلية خائرة القوى، وبثقافة تحريضية ومعادية للحرية، ضاع زمانها وضعفت حجتها.
وهذا ما نحذر من تداعياته السلبية الخطيرة!
- خامساً: والمؤكد أن الأمر يحتاج معالجات عقلانية وموضوعية، تتناول أسباب الشطط والتجاوز، وحتى النقد الجارح والتجاوز غير المقبول، ومثل هذه المعالجات لا تتهم بالقهر والمصادرة وعقوبات الحبس والتجاوز والزجر، لكنها تتم بالترشيد والإقناع والتوسع في حرية الصحافة وتوفير المعلومات الصحيحة، وإعادة تأهيل وتثقيف أصحاب القلم على ثقافة الحرية والاجتهاد واحترام الخصوصية والخضوع للقانون العادل.
وأمامنا عدة مستويات لهذا الترشيد وتحمل مسئولية محاسبة الخروج على آداب المهنة وقواعد النقد الموضوعي، وهي أولاً القانون واللجوء إلى القضاء، وثانياً الاحتكام للرأي العام الذي هو في عرفنا قاضي القضاة الأصلح لإصدار الأحكام، وثالثاً الضمير المهني للصحافي والكاتب، ورابعاً نقابة الصحافيين الممثلة للجماعة الصحافية المعبّرة عن الرأي العام، باعتبارها المسئولة عن حماية الصحافة وعن أداء وسلوك الصحافيين والكتاب، والمكلفة مهنياً وقانونياً بحماية المهنة من المسيئين، بتطبيق قانونها وميثاق الشرف بها، اللذين ينصان على تأديب وتهذيب الخارجين على الأصول.
أما ما ينادي به المحرضون محترفو الديكتاتورية وأعداء الديمقراطية، فهو مرفوض بكل المعايير لأنه مصادرة على المطلوب من حيث المبدأ.
والخلاصة... إن نقد أعمال وسياسات رئيس الدولة، وأي مسئول يليه بالتالي، جائز شرعاً وقانوناً في نطاق حرية الصحافة والرأي مثلما أن تعمد إلى توجيه الإهانة والإساءة إلى الرئيس أو أي مسئول مرفوض.
خير الكلام...
يقول نجيب محفوظ: مشكلة شعوبنا أنها تنظر إلى الحكام وكأنهم منزهون عن الخطأ، وأن أي مساس بهم يعتبر جريمة، وهذا غير صحيح
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1461 - الثلثاء 05 سبتمبر 2006م الموافق 11 شعبان 1427هـ