في البحرين، مؤسسات في المجتمع المدني، لكنها ليست منه، هي جمعيات «الغونغو». وهذا ما يصنف في إطار الـ «زعم»، لا الإقرار. تحسبها دعامة للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وتلك السلسلة الطويلة من المفردات البالغة الدلالة، لكنها فارغة التأثير، لاتنفع قدر ما تضر.
هذه الجمعيات تديرها الأسماء نفسها، وأحياناً الأماكن نفسها، وحين تذهب المعارضة إلى عاصمتها التاريخية «لندن» محتجة معترضة، تذهب هذه الجمعيات معها، فتجد ممثليها يطوفون شوارع لندن، تخرج المعارضة بعريضة، فتخرج هذه الجمعيات بعريضة! لا فضل لأحد على أحد، ولا يدري المراقبون ما إذا كان الطرفان يمثلان وطناً أم اثنين.
هذه الجمعيات المشبوهة، ليست حكومية، فموازناتها لا تعتمد في مجلس «النواب»، ولا حتى «الشورى».
السؤال: ما سر هذه الجمعيات ؟، هل أحدث البحرينيون في السياسة أمراً...؟
يمنة ويسرة، أقلب هذه الأوراق التي تضم أسماء شتى الجمعيات السياسية والحقوقية في البحرين، ورقة ورقتين، سقطت الثالثة، التقطها، فتسقط أخرى، نتيجة مستعجلة: جعجعة مزعجة، لا طحين.
عملية جرد تستغرق دقائق، محاولة استهداف غير بريئة، محرك «غوغل» بدأ العمل، الفئة المستهدفة أسماء ثلاث جمعيات بين سياسية الطابع أو حقوقية. النتيجة متوقعة، فالاستهداف منذ البدء كان يحتاج إلى براءة.
تمت عملية الصف، الآن محاولة لسبر الخطاب - وطمعاً في المزيد من البهرجة الإعلامية - محاولة جادة لتفكيكه. المهمة تنتهي بسرعة. التأييد وقت التأييد، الدعم وقت الدعم، الوعيد وقت الوعيد، التهديد وقت التهديد.
انتهت قصتنا الخبرية. فلنبدأ.
قانون المزاحمة الجديدة:
المزاحمة في أية بيئة سياسية مشروعة، والمجتمع الذي يزخر بالتنوع المؤسساتي يمثل دلالة على حال من السواء السياسي وعلي الاستقرار السياسي الذي نحتاج إليه.
كلما كانت التنظيمات السياسية متشعبة ومتفرعة، كانت الأجواء أكثر طمأنينة، فأصوات المجتمع كافة تجد التمثيل المناسب لها، لا أحد من أفراد المجتمع مهمل التمثيل نظرياً. لكل صوت فردي صوت مؤسساتي يمثله، ومن هنا كانت المزاحمة السياسية - على ما أرى - منطقية ومقبولة في المطلق، وذلك وفق الانموذج الطوباوي للنظرية.
ولأن لكل نظرية تحريفيين يقومون بتخريبها، و«التحريفية» نظرية لا أود التملص منها مؤقتاً، نرى أن هذه المزاحمة والتعددية يستطاع لها أن تنحرف لتكون مزاحمة «تخدع» وتقمع الحقوق والمكتسبات.
حين يكتفي المجتمع المدني بعدد محدد من المؤسسات السياسية التمثيلية التي تمثل شتى أطيافه وإختلافاته، تظهر فجأة للعيان جمعيات الـ «غونغو»، فبينما يكتفي المجتمع - على سبيل المثال - بـ «عشر» مؤسسات سياسية، يصل عدد المؤسسات - من دون حاجة اجتماعية - إلى عشرين أو ثلاثين مؤسسة سياسية.
وكذلك، حين يكتفي الناشطون الحقوقيون بمؤسسة حقوقية أو اثنتين، نرى أن ثقافة حقوق الإنسان راجت فجأة، وأنها تستحق المزيد من الرعاية والاهتمام، فنرى المزيد من المؤسسات الحقوقية، والمزيد من المزاحمة، والأهم/ الهدف هو «الجديد» من «التحليل» و«النتائج» التي غالبا ما تكون موافقة لحال السلطة وتوجهاتها.
تسعى السلط السياسية إلى اختلاق مؤسسات سياسية تعمل على صناعة رأي عام جديد، يزاحم هذا الرأي المصنوع حكوميا الرأي المؤسساتي المدني الذي أنتجه المجتمع نفسه، وفق احتاجاته وتطلعاته، تتم من خلال هذه الموسسات الجديدة مزاحمة الجمعيات المتحكمة بصناعة الرأي العام وتمثيله في شتى الاستحقاقات الوطنية، انتخابية تارة عبر صناديق الاقتراع، وحقوقية تنافس مؤسسات المجتمع الحقوقية تارة أخرى.
بحرينياً، إذا ما كانت نظرية المزاحمة الجديدة حقيقية، فإن الجمعيات السياسية والقانونية في البحرين ترزح تحت مزاحمة حقيقية لمؤسسات وهمية، لا أساس اجتماعياً لها.
ونتيجة هذه المزاحمة أن المؤسسات المدنية البحرينية تتعرض لاستقطاع سياسي جماهيري كبير. إذ تعمل هذه المؤسسات الوهمية على استقطاب الجمهور الذي لا يحتاج إليها فعلياً عبر آليات مستحدثة تمارس خداع المجتمع على مستوى الفرد الفاعل تارة بوصفه منتخباً، وتارة بوصفه مهتماً بآراء مؤسسات حقوق الإنسان تارة أخرى.
علي سبيل المثال، نجد أن الخطاب الحقوقي يمارس في آليات عمله فلسفة الإغراء، وعليه نجد أن هذه الموسسات تستخدم البنية المعرفية للمفاهيم الحقوقية في تمرير ما تود تمريره على المجتمع.
جمعيات الغونغو تستخدم ذات الخطاب الحقوقى النظري في تمرير أفكارها الموالية للحكومات، ولأن المسألة لا تزيد في حقيقتها عن لعبة لغة، فإن مستويات الإقناع في الخطابات الحقوقية لجمعيات ومؤسسات الغونغو تبدو مرتفعة.
هذا ما يحيل إلى أن المزاحمة منطقية ولا يمكن التقليل من واقعيتها، خاصة إذا ما لاحظنا أن نسب التصديق للخطابات الحقوقية تلقى قبولا إجتماعيا مميزا.
قانون الاختباء السياسي:
تمارس السلطة - أية سلطة - بعض التكتيكات السياسية، وذلك عبر الاختباء بوصفها سلطة تنفيذية خلف السلطة التشريعية.
هذه السلط ذاتها تقوم بعملية صناعة التشريعات الذي تسعى هي نفسها لتنفيذها.
المشهد السياسي في هذه الحال يختزل في أن السلطة التنفيذية تقوم بأدوار السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية تختبئ في صفوف السلطة التشريعية، وعليه، تؤسس لإنتاج سلطة تشريعية وهمية، هذه السلطة التشريعية هي بالأساس لا تنتج إلا ما تكون السلطة التنفيذية قد أقرت تنفيذه وإنتاجه والشروع فيه.
في حقيقة الأمر، لعبة الاختباء هذه تعمل على سلب المجتمع سلطاته الدستورية، وتحرمه من حقوقه التي كفلها له الدستور.
مؤسسات الـ «غونغو» في تقوم باستثمار قانون الاختباء لتفعل بذلك قانون المزاحمة الجديدة كما تم بيانه في الأعلى.
بحرينياً، إذا كان ثمة تطبيق ما بأي صورة لقانون المزاحمة السياسية الجديدة، فإن صورة ما لقانون الاختباء السياسي لابد أن تكون فاعلة. هذه الاشكال في العملية الديمقراطية يتطلب تضافر الفعاليات السياسية والاجتماعية لكشف هذا التلاعب بالتجربة الديمقراطية في البحرين، على أن المتهم في هذا السياق ليس بالضرورة هو الحكومة وحدها.
بعض الأفراد الجشعين والطامحين إلى رضا الحكومات بأي طريقة كانت، والذين يتمتعون بنوع من البريق الإعلامي والحضور الإجتماعي غالباً ما يعمدون إلى تأسيس مؤسسات الـ «غونغو» بهدف الوصول عبر هذه الجمعيات التي من المفترض أن ترحب السلطة السياسية بمخرجاتها؛ إلى مناصب سياسية ذات ثقل، وهذا ما يجعل تطبيق النظرية أكثر واقعية ومدعاة للقبول.
إن تفرد السلطة التنفيذية بالتشريع عبر سيطرتها على السلطة التشريعية وعلى كافة مخرجاتها ونتجها التشريعي يحمل معه إضرارا لا يستهان به بكافة الجسم الديمقراطى لأي تجربة سياسية وليدة.
والبحرين، والتي يذهب الكثير من المتابعين إلى أنها مبتلاة بمثل هذه الجمعيات السياسية والحقوقية لا بد من أن تثير خطابا وطنيا مضادا لمثل هذه الآفة السياسية.
في الحقيقة لم تفعل المؤسسات السياسية والحقوقية في البحرين الكثير لفضح تلك الشخصيات التي تقف خلف الغونغو في تجربتنا السياسية. والمتتبع لجمعيات الغونغو في البحرين يجدها متماثلة سواء على مستوى الفاعلين السياسيين وصولا لمقرات الإجتماع ومنهجية الخطاب السياسي.
التصويت الإلكتروني مثالاً
قانون الإختباء السياسي للسلطة التنفيذية في مسألة التصويت الإلكتروني كان واضحاً للعيان، فالحكومة بعد أن استشارت العديد من الجمعيات خرجت بنتيجة مفادها أن المجتمع يوافق على مقترح التصويت الإلكتروني في الانتخابات القادمة. وفي واقع الحال أن الحكومة إستشارت بالفعل طيفا لا بأس به من الجمعيات السياسية.
الموضوع الذي قد يكون مثار تساؤل هو أن ما نسبة التمثيل الاجتماعي للجمعيات السياسية التي أبدت موافقتها علي مقترح التصويت الإلكتروني مقارنة بالتمثيل الاجتماعي للجمعيات السياسية التي عارضته؟.
النتيجة بطبيعة الحال أن خللاً ما يعبث بالخطاب الاعلامي المعتمد علي مرجعية الرأي العام في البحرين. هذا الخلل هو بالضرورة ما يجب أن تلتفت له مؤسسات المجتمع المدني التي تمثل الإنسان البحريني بصدق وضمير، وليست وليدة المصلحة أو ناشئة تحت إيعاز مباشر من بعض من يبحثون عن فرص الصعود السياسي على حساب المجتمع البحريني وطموحاته.
اتضح لنا أخيراً... أنه لم تنته بعد قصتنا الخبرية.
ثمة في الحقيقة أقل من جعجعة، وأكثر من طحين.
انتهت قصتنا الخبرية.
- مزاحمة مؤسسات المجتمع المدني (التي أنتجها المجتمع بنفسه) في التأثير على القرارات الحكومية كمجموعات ضغط، إذ تعتبر هذه المؤسسات مصدرا لدعم القرارات الحكومية مهما كانت تبعاتها السلبية علي المجتمع.
- خداع الرأي العام، يأتي ذلك عبر صناعة رأي منافس له، غالبا ما يكون مضادا ومعاكسا لما يسعى أفراد المجتمع إقراره.
- إلغاء الدور الحقيقي للسلطة التشريعية ومؤسسات الرقابة الحقوقية، إذ تصبح شتى أدوات الرقابة الحقوقية والنقد السياسي معطلة.
- صناعة معارضة صورية مفبركة، تقنع الرأي العام العالمي بوجود حراك ديمقراطي. وهذا ما نجده فاعلا ومؤثرا في بعض التجارب السياسية العربية.
- تقسيم القوة الإنتخابية وتوزيع الأصوات، خاصة في المجتمعات التي لا تمتلك وعيا سياسيا حقيقيا.
- إيقاف شتى التفاعلات السياسية الرامية لتطوير التجارب الديمقراطية الناشئة.
- الحكومات، إذ نجد في النموذج الروسي لفترة ما بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي المثال الأوضح عالميا. الحكومات تقوم بصناعة وبرمجة هذه المؤسسات عبر ترويج بعض الأسماء السياسية القادرة على الدخول لفعاليات المجتمع المدني والتأثير فيه، وعبر الدعم المادي السري المباشر تارة، والغير مباشر تارة أخرى
- الشخصيات الانتهازية المتسلقة، والتي تسعى إلى إرضاء السلط السياسية وكسب ودها بهذه الطريقة
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1460 - الإثنين 04 سبتمبر 2006م الموافق 10 شعبان 1427هـ