التصريح الشفاف الذي أدلى به القائم بمهمات عميد كلية التعليم التطبيقي بجامعة البحرين حديثاً، لا يمكن قراءته بمعزل عن بيئة الواقع العام بمجمله، فلا جدال بأنه تعبير فاقع عن أزمة وعجز واعتراف ضمني بوجود خلل عميق في العملية التربوية والتعليمية لاسيما برامج الجامعة التعليمية ذاتها، إذ إن مخرجاتها - بحسب اعتراف الجهات الرسمية - لم تكن بمستوى متطلبات المجتمع وسوق العمل.
وحتى نكون موضوعيين في تسليط الضوء على تلك الأزمة لجهة دلالاتها وتقدير احتمالاتها المستقبلية وإفرازاتها، لابد من تفكيك مؤشرات جوهر التصريح الذي لا يجوز فحصه بقراءة أحادية الجانب مقفلة البنية، وكذلك لا يجوز تمرير مضامينه وبما تشمله من قرارات نهائية وحادة تتعلق بمستقبل الآلاف من أبنائنا وبناتنا مرور الكرام، كما لا يجوز التعاطي معه وكأنه حتمية لا مناص منها، فواقع الأمر كما نظن له تفسير وحيثيات واحتمالات، والإعلان عن تأسيس كلية العلوم التطبيقية في جامعة البحرين كمخرج للأزمة والخلل، قد تجاوز إدارة الجامعة لكونه في الأساس قراراً سياسياً فوقياً تم اتخاذه بناء على وضع اقتصادي محض، تؤثر فيه عناصر السوق ومتطلباته التي طغت على أهداف العملية التربوية بالأساس.
دليل ما نقوله، تجدونه في الإشارة الرسمية إلى ان الهدف الأساس من استحداث كلية التعليم التطبيقي هو لتقليص الفجوة بين مخرجات الجامعة والمتطلبات الآنية والمستقبلية لسوق العمل، وإن فكرة إنشائها انبثقت من واقع الإحساس بالمسئولية الوطنية بحسب المصرح، فضلاً عن واقع أن هناك 57 في المئة من طلاب الجامعة مرشحون للفصل منها لتدني مستوياتهم الأكاديمية، هذا عدا عن احتمالية خسارة 3000 طالب وطالبة هذا العام فرصة الانضمام إلى الجامعة.
قيل أيضاً، إن الطالب لا يتحمل وحده فقط مسئولية فصله من الجامعة، إنما هناك الكثير من الأسباب والمعايير الأخرى التي تسهم في ذلك بشكل جزئي، إضافة إلى النمو الخيالي لأعداد المقبولين في الجامعة «من 6 آلاف قبل 10 أعوام إلى 20 ألفاً» أي نحو ثلاثة أضعاف، فضلاً عن محدودية الموازنة المرصودة للجامعة، وضعف القدرة المالية لبعض الطلبة» (تقرير صحافي محلي نشر في 21/8/2006).
غبن في فرص التعليم
لعلنا نجد في تحليل التربوي «د. محمد جواد رضا» في كتابه «السياسات التعليمية في دول الخليج العربية» ما يسعفنا في مقاربة الحقائق الدامغة أعلاه، مع واقع عناصر العملية التربوية من حيث ضعفها أو قوتها أو الخلل الكامن فيها، وبالتالي قد يفسر الأسباب المتخفية وراء الأزمة والعجز. قال: «إن التربويين الرسميين الخليجيين يبالغون في قيمة الأهداف التي يسطرونها على الورق ويحملونها بواجبات سياسية واجتماعية وتربوية ونفسية وثقافية قلما تسأل المؤسسات التربوية عن أمثالها مجتمعة»، وأضاف: «هم يسقطون من حسابهم أربعة اعتبارات هي: اختلاف البيئات الاجتماعية والعائلية، واقع توزيع القوة الاجتماعية ونظم اقتسام مصادر الخير، والاختلاف حول مضمون المفاهيم التربوية، وأخيراً، التعامل مع الأهداف التربوية كضوابط للعملية التربوية وليس كرؤية فلسفية في هذه العملية، ما يلغي فرضية أن التعليم هو نمو، ولا يمكن أن يكون محكوماً بأهداف مصوغة صياغات مختلفة لتأدية وظائف اجتماعية أكثر من أدائها وظائف تربوية».
أما في مؤلفه الآخر «العرب والتربية والمستقبل»، فيكشف بوضوح عن غطاء الأزمة وسر العجز التي يمر به التعليم العالي العربي فيشير «إلى أن العولمة قد أدت إلى كفّ يد الدولة العربية - أو قصرها - عن التعليم والتحول بالمؤسسة التربوية من مشروع نهضوي وطني قومي إلى مشروع اقتصادي خاص تحكمه المصلحة الخاصة سواء أكانت مصلحة مالكي المشروع أنفسهم أو مصلحة الطبقات المنتفعة بخدمات المشروع»، مؤكداً: «أن هذا التيار يعبر عن نفسه بانكماش الإنفاق على التعليم أو تراجع الزيادة فيه، بينما تتحول المساهمات الخاصة إلى تحويل خدمة التعليم من خدمة مجتمعية إلى نشاط ينافس الأنشطة الأخرى في الربحية».
ويستطرد بالتحليل «ان غياب العدل في توزيع الفرص التعليمة والغبن في الإنفاق على التعليم في مراحله المختلفة لا يقع محض الصدفة. وإن الهدر الواقع في التعليم جراء الرسوب والإعادة والانسحاب من الدراسة، وسوء التعليم المتحقق وتدني كفايته، إنما يترجم عن سياسة اجتماعية مستورة أو سافرة في توزيع فرص التعليم كمّاً وكيفاً وهذه السياسة تمثل إحدى أشد الأزمات في الدول العربية».
واوضح «أن التغابن في فرص التعليم يقود إلى تباين في موارد الدخل ومستوى المعيشة، وهذا ما سيفرز في المدى البعيد نتائج تظالمية لا تظهر للعيان ولكنها تظل فاعلة في الأعماق وتتجاوز شرورها الأفراد إلى المجتمع ككل». وفي رأيه «ان معادلة العدل التربوي والفرص الاجتماعية يتداخل فيها ما هو (حق) مع ما هو (امتياز) ليزيد من استغمام الرؤية فيما هو عدل تربوي. فالتاريخ الاجتماعي للجامعات العربية لم يدرس بعد ولذلك فإننا لا نملك إجابة موثوقة ولا موثقة عن السؤال: أي الفئات الاجتماعية أكثر انتفاعاً بالتعليم العالي؟ وخصوصاً انه يعتبر التعليم العالي مدخلاً إلى المراكز القيادية في المجتمع - سياسياً واقتصادياً واجتماعياً - ولذلك فهو الأكثر عرضة للتنافس على الاستئثار به. ويستنتج أن الأكثر انتفاعاً منه هم الأكثر وعياً لقيمته كقوة للهيمنة الاجتماعية وهم في الوقت ذاته الأكثر اقتداراً على (شرائه) لأبنائهم وبناتهم، فأمام تضاؤل القدرات الاستعابية للجامعات الحكومية وتزايد التحفظات على نوعية أدائها وخريجيها، اتجه (ذوو القدرة) المالية إلى تأسيس الجامعات الخاصة التي يسهل الانتساب إليها والتخرج فيها. بهذا نشأت طبقة اجتماعية تتميز بامتلاك الشهادة الجامعية، التي هي معيار النفاذ إلى المراكز القيادية في الاقتصاد والإدارة والقضاء والإعلام والسياسة».
من طرف متصل، أكد أنه لا يعادي تجربة الجامعات الخاصة طالما هي لا تمتهن الرسالة المقدسة للتربية - الجامعية وغير الجامعية -، وهي رسالة الامتياز العقلي كما في جامعة هارفرد وبيل وميشيغان وكمبردج وأوكسفورد وغيرها
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1451 - السبت 26 أغسطس 2006م الموافق 01 شعبان 1427هـ