لبنان بلد عربي ليس فيه الكثير مما يشبه العرب ويعود ذلك إلى التنوع الثر الذي يكسو اللوحة الاجتماعية والدينية وانعكاساتها على الحياة السياسية. وسأكتفي بإيراد واحدة من تلك اللامتشابهات فيما يتصل بالنظام السياسي، ومثاله أن لبنان، كما تقول عزة وهبه في دراسة مقارنة بعنوان «الأداء التشريعي للمجالس التشريعية العربية»: «عرفت ديمقراطية وفق نمط خاص معروف في بعض دول أوروبا ويقصد به نمط التراضي المشروط الذي يتسم بفاعلية في حالات الدول المنقسمة طائفيا، لما يوفره من حماية للأقليات ولما يتيحه لها من دور جوهري في النظام السياسي وفقا لترتيبات متفق عليها أخذت في حالة لبنان صورة الحصص المحددة للطوائف». وهذه على أية حال، ميزة وهي وصفة تحمي الاستقرار وسيكون من الخطأ، في اعتقادي، أن يختل هذا التراضي المشروط باستئثار إحدى المكونات بالقوة خارج نطاق الدولة.
والمؤمل أن يكون هذا التدافع في نصرة لبنان نابعاً من معرفة بحقيقة لبنان المتسامح ذي التركيبة الطائفية الدقيقة التي قربته كثيرا من أن يكون إلى العلمانية أقرب، فهو يرفض أن يكون ممثلا في طائفة ما، أو ديانة ما.
لبنان الذي استثمر موقعه ليكون معبرا يصلنا بالغرب، وفتح نوافذه له لتتدفق أفكاره وثقافته ويحيل كيانه مختبرا تتفاعل فيه أفكار الحداثة ويغدو متنفسا للحرية ومصهرا للتعايش بين مختلف الطوائف والديانات. أرجو مخلصا ألا يأتي ذلك اليوم الذي فيه نفاجأ بأن كلاً منا مندفع إلى فرع طائفته يرتجي لها دعما في محاولة تقويتها على الطائفة الأخرى ليعيدوا عقارب الساعة إلى الوراء، إلى ذلك الزمن الذي تجاوزت كل الطوائف اللبنانية خرابه ودماره الذي امتد أكثر من خمسة عشر عاما عجاف.
فلا يستغربن أحد مما ستسير عليه عملية تحليل أسباب الحرب ونتائجها وبالتالي اتخاذ المواقف تجاه النتائج، فهناك أسئلة موجعة، مهما كانت درجة وجعها، ليس الخطأ في طرحها وإنما الخطأ في حجبها، ومن تلك الأسئلة لماذا يجب على الشعب اللبناني دفع كلفة تصرفات حزب الله المنفردة؟
لماذا يكون لبنان ساحة تصفية حسابات دولية وإقليمية؟
هل الميليشيات الحزبية تحت أي مسمى في البلدان العربية ضرورة؟
وغيرها كثير، لكن تناولها ينبغي أن يكون بعيدا عن تبييت النية والتخوين. ألم يبدأ الإسرائيليون بمناقشة أخطائهم السياسية والعسكرية منذ اللحظة التي انتهت فيها الحرب؟ لماذا لا نقتفي الآثار الصحيحة؟
المساءلة، كما يعرفها اللبنانيون، إحدى إفرازات الديمقراطية وتؤسس لثقافة جديدة تستقيم معها الحياة وتحفظ للأجيال القادمة حقوقها. فلماذا نحن من خارج لبنان، نضيق بها؟ سؤال إجابته في ثنايا الفكر الاستبدادي.
للفعل أثره وللهزيمة شروط
فيما الفعل يبدو دائما صريحا وصادقا ومؤثرا، وهو لذلك يكون، كما تعلمناه ممن سبقنا، أصدق أنباء من القول وأكثر منه أثرا، فإنه لا ضير من أن يكون القول متناقضا ومربكا ومرتبكا في مواجهة الفعل، ذلك أن القول عندما يكون مقرونا بفعل تتجسد فيه قيمة الصدق، أما عندما يكون القول منفلتا في الهواء مسنودا بإعلام يمجد صاحبه ويختلق الأعذار للابتعاد عن لحظة الصدق والمواجهة، فإنه يكون موسوما بالكذب، وقد قيل في مأثورنا الشعبي: «الرجل قول وفعل». هذا ما أسفرت عنه هذه الخلطة التي نعبر عنها بالنقائض وهي ما كانت مشتملة عليه مشهدية محمولة بقداسة على سواعد عربية استُهل عرضها... عنوة ومن دون سابق تبليغ، في بلد لشد ما استهواه خرق السائد وتبديد سكونه ومشاكسة بهيمية ليله العربي بإضاءات لا ترتضيها غالبية دوله... لا بل كلها، ما أثار لغطا سياسيا كاد أن يطيح بالوحدة الوطنية التي تجلت كأحد أهم أسباب النصر، عند البعض، أو منع الهزيمة عند البعض الآخر، ولكن أحدا لن يتعاكس مع الواقع ويقول هزيمة بناء على حجم الدمار الذي ألحقه العدوان الإسرائيلي، وإن كان ذلك من حقه إذا تأكد من توافر شروط ومعطيات، إذ إن للنصر شروطه وكذلك للهزيمة، وهي معطيات لموقف قببلي يتجلى في قوة الصمود، وهذا ما حدث مع المقاومة الإسلامية إذ صمدت ومنعت العدوان من تحقيق أهدافه التي أعلن عنها قبل الحرب وفي بدايته وفي نهايته في متوالية تنازلية كانت تتناغم مع شدة الصمود وقوة الرد الذي كانت تسدده المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله.
نصف انتصار أم نصف هزيمة؟
منذ شهر ويزيد انبرى للعب دور البطولة في لبنان حزب، بعد أن عزّت البطولات وشاخت العزائم وخارت القوى، وقيل دولة، لا بل جزء من دولة، وتضاربت الأقوال، إذ يقول بعضهم دولة داخل الدولة، ويزايد آخرون لفرط في الزهو بالانتماء القومي والمذهبي بالقول، بل إنها جزء من دولة خارج «الحدين» الجغرافي والقومي، تدثرت بلبوسات المذهبية إمعانا في زرع موقف مضاد، فهل يكون ذلك موقفا حذرا إزاء فضيحة محتملة؟ يمكن... لكن، هل هذا يهم؟
بل لن أبالغ إذا قلت أنه لا يمنع إذا وضع على خط مواز مع تحقيق نصر مرتجى يكسر رتابة التعايش مع الهزيمة والانكسار، لأن الدولة داخل الدولة إشكالية داخلية، قد تنسحب سلبا على حقيقة التطور السلمي، وقد لا تنسحب، لأن وضعا هشا يساعد على ذلك... ولكن هل للهشاشة دويا؟! لا أظن.
ما يثير الانتباه والدهشة، والدهشة هنا وليدة مفاجآت، وإن كانت على نحو ما لم ترق إلى الإثارة التي بها وعد السيدحسن نصرالله، الشخصية الكاريزمية التي أثبت بالمحسوس لجيل ما بعد تقسيم فلسطين بأنه يمتلك قيادات سياسية كالتي يقرأها في كتب تاريخه، بمواصفات بطولية يمكن أن يستشهد بها في دروس التاريخ إلى جانب المنتصرين في الحروب على أعدائهم، هذا إذا اعتبرنا نتيجة حرب لبنان انتصارا، ولكن لماذا نعتبرها كذلك؟ ألم تكن كل حروبنا هزائم؟ ألم تمنع المقاومة الإسلامية في هذه الحرب هزيمتنا العسكرية بالطريقة الإسرائيلية المعتادة معنا؟ فلنعتبر أننا حققنا نصف انتصار وألحقنا بهم نصف هزيمة، واعتبروا ذلك حلا وسطا للجدل الذي سيرتفع، لا محالة، بشأن هذه النقطة بالذات، أقول ما ينبغي أن يلتفت له إن تطورا حتميا يرهص بمدلولات تحمل في أحشائها معاني مغايرة لأفعال الشجب والتنديد والإدانة، التي أضحت لازمة خطابنا المموسقة، لتسمو بها إلى تخوم الفعل المؤلم والمؤثر الذي يعيد تأسيس اعتراف صريح بكيانية العرب وبحقيقة مكانتهم في صنع التاريخ
العدد 1450 - الجمعة 25 أغسطس 2006م الموافق 30 رجب 1427هـ