في الوقت الذي يراجع فيه الكيان الصهيوني حساباته الاستراتيجية داخلياً، تجد مجموعات الضغط التابعة له في الغرب صعوبات في لجم تحولات الرأي العام المضادة له فيه، وخصوصاً بعد فظاعات الحرب في لبنان، كذلك اعتقالات النواب والوزراء الفلسطينيين. فلأول مرة منذ نشوئها، تصادف «إسرائيل» حرجاً كبيراً مع التصريحات المتزايدة لمسئولين أوروبيين، يعتبرون فيها أن سياسة القوة قد تجاوزت الحدود وأثبتت عقمها. لذلك، فعلى تل أبيب أن تعود إلى طاولة المفاوضات من دون قيود وشروط مسبقة.
لم تُقنع تبريرات وزيرة الدفاع الفرنسية ميشال أليو - ماري، التي ربطت من خلالها زيادة عدد قوات بلادها المشاركة في «اليونيفيل» بجنوب لبنان بالمعرفة المسبقة بالمهمات التي ستناط بها، المراقبين الأكثر تتبعاً لمجريات الحوادث في لبنان. فالمسألة هي على ما يبدو أكثر تعقيداً من مجرد زيادة عدد قوات هذه الفرقة العسكرية التابعة للأمم المتحدة. ذلك، لأن المعلومات المتوافرة لدى أجهزة الاستخبارات الفرنسية، سواء التابعة لقيادة الجيوش أو لوزارة الداخلية مقلقة. فالتقارير التي نقلت بداية الأسبوع الماضي للرئيس جاك شيراك تؤكد بمجملها أن «إسرائيل» تعد لجولة جديدة في لبنان من دون الأخذ في الاعتبار تعزيز قوات الأمم المتحدة ومشاركة فرق أوروبية فيها. وتفيد التقارير عينها بأن الإسرائيليين سيعمدون من أجل تحقيق «انتصارهم المنشود»، إلى وضع الجميع أمام الأمر الواقع بغض النظر فيما لو خسرت فرنسا، ومن ورائها الدول الأوروبية الأخرى، كإيطاليا هيبتها وأرواح جنودها، ما سيخرجها حتماً من أية معادلة مستقبلية في منطقة الشرق الأوسط.
وتشير المعلومات في هذا الصدد إلى أن الرئيس الفرنسي قد كرّس وقتاً طويلاً للتشاور مع نظيره الإيطالي روما نوبرودي، بهدف تنسيق المواقف وتنجب أي تورط غير محسوب في لبنان. ولم تؤثر المواقف الأميركية المتباينة حيال فرنسا، سواء تلك التي عبّر عنها جورج بوش، المشجعة لباريس على إرسال المزيد من الجنود لدعم «الديمقراطية في لبنان»، بحسب قوله، كما لم تؤثر الكلمات التي تلفظ بها هذا الأخير والتي تلعب على الوتر الحساس مثل الحديث عن المصالح المشتركة في منطقة الشرق الأوسط. كذلك، أن فرنسا لاعب أساسي على الساحة الدولية، وبالتالي في لبنان. من ناحية أخرى، سدّت الحكومة الفرنسية آذانها كيلا تسمع تصريحات بعض رموز الحزب الجمهوري في أميركا مثل المرشح للرئاسة جون ماكين، الذي أعرب عن قلقه الشديد لناحية تراجع فرنسا عن موقفها بإيفاد 2000 من جنودها إلى جنوب لبنان.
ففرنسا التي تناور من خلال دعوتها إلى التضامن الأوروبي من خلال إرسال قوات لتعزيز «اليونيفيل»، تدرك مسبقاً أن القيادة في «إسرائيل» لا يمكنها بعد الهزيمة العسكرية والسياسية والاستخبارية إلا القيام بعملية هروب للأمام لقلب الطاولة، محاولة بذلك استخدام القرار 1701 للتغطية. فإذا كان هذا العامل هو السبب الرئيسي لإحجام باريس عن الالتزام بما سبق وأعلنته، فإن الاستياء الشعبي الداخلي من هجوم جديد على لبنان، يضاف إليه ارتفاع الكثير من الأصوات داخل القيادة العامة للقوات المسلحة التي نقلت حديثاً للرئيس شيراك عبر وزيرة الدفاع، بشأن التململ الحاصل داخل المؤسسة العسكرية ورفضها أن يكون جنودها بمثابة قرابين تذبح على طاولة المصالح الأميركية، ساهما في التردد الواضح في موقف باريس. في هذا السياق أيضاً، يذكر أحد الدبلوماسيين ممن عملوا في منطقة الشرق الأدنى ومن المقربين للرئيس الفرنسي، أن هذا الأخير غير مستعد البتة لخوض مغامرة من هذا النوع وتحمل أية خسارات في الأروح كما حصل في عهد سلفه فرانسو ميتران، إذ قتل في لبنان في العام 1983 نحو 250 جندياً فرنسياً. ذلك، إكراماً لرغبة ومصلحة الرئيس جورج بوش. ناهيك عن أن معركة رئاسة الجمهورية قد فتحت منذ الآن على مصراعيها إذ من الممكن أن يرشح شيراك نفسه لولاية ثالثة بعد أن أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة التي أعلنها يوم الأحد الماضي، أن المرشحة المحتملة للحزب الاشتراكي الفرنسي سيغولين رويال، ستحصل على نسبة 54 في المئة من أصوات الناخبين، مقابل 42 في المئة لمرشح الأكثرية الحالية وزير الداخلية نيكولا ساركوزي.
وإذا كان بعض نواب الأكثرية من ذوي الارتباطات الوثيقة بواشنطن من أمثال: بيار لولوش، المتعاطف كلياً مع «إسرائيل» أيضاً، يمارسون بالتعاون مع وسائل الإعلام الفرنسية ضغوطات معنوية على الحكومة الفرنسية لإرسال المزيد من الجنود إلى جنوب لبنان، فإن «المتعقلين» في الحزب الحاكم يدعمون شيراك في عزوفه عن التورط قبل الحصول على الضمانات الكافية. وما يؤكد هذا التوجه، الانتقادات الشديدة اللهجة التي صدرت عن الناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية بعد محاولة الإنزال الإسرائيلية الفاشلة، يوم الأحد الماضي، في قرية «بوداي» بالبقاع اللبناني، كذلك الموقف الغاضب من اعتقال نائب رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني حديثاً.
انعكاسات وتحولات مرتقبة
تتخوف الأوساط اليهودية الفرنسية النافذة من أن يؤدي التحول الحاصل في موقف الرأي العام الفرنسي إلى اهتزاز العلاقة مجدداً بين باريس وتل أبيب، وخصوصاً أن هذه الأوساط قد بذلت جهوداً كبيراً لتصحيحها بعدما طفت على السطح، وبحدة، المشاعر المعادية للسامية من قبل شرائح كبيرة في المجتمع الفرنسي، ما سحب نفسه على عدد من الدول الأوروبية الأخرى. ذلك، نتيجة مواصلة قتل الأبرياء في غزة. لذلك، عمدت هذه الأوساط إلى تحذير الجمعيات والروابط المتطرفة اليهودية في فرنسا إلى تجنب أية ردود فعل استفزازية على المظاهرات شبه اليومية الداعمة للبنان. ذلك بهدف عدم إحراج السلطات الأمنية التي أفهمت مسئولي الجالية اليهودية في فرنسا بأنها ليست على استعداد لرؤية أعمال شغب يمكن أن تتجاوز الخطوط الحمر في حال تحركت الضواحي الباريسية التي يسكنها عرب منطقة المغرب العربي، غالبيتهم تحمل الجنسية الفرنسية. من ناحية أخرى، طلبت هذه السلطات من مسئولي الجمعيات العربية المغاربية، مدنية ودينية، العمل على تهدئة الخواطر وعدم الانجرار لمواجهات مع اليهود الفرنسيين، ما عملت هذه الجمعيات بموجبه حتى الآن.
وتخشى هذه الأوساط الإسرائيلية النافذة في جميع المجالات، السياسية والإعلامية والمالية من أن يؤدي انزلاق «إسرائيل» في حرب جديدة تكون أبشع من سابقتها لناحية ارتكاب مجازر بحق المدنيين اللبنانيين من إجبار مصادر القرار في فرنسا على التفكير في مراجعة عملية التقارب الكبيرة التي حصلت في السنة الأخيرة بين فرنسا و«إسرائيل» ولاسيما في ميدان الأمن والصناعات العسكرية التكنولوجية ذات الطابع الأمني، ما تعارضه بشدة الإدارة العامة الفرنسية للتسليح. هذه الأخيرة التي ترى أن مصالحها هي مع الدول العربية التي ستنقذ مصانعها وعمالها وموظفيها من خلال شراء الدبابات من طراز «لوكليرك» والطائرات من طراز «رافال» و«ميراج»، إضافة إلى الأجهزة المتطورة إلكترونياً لمراقبة الحدود على غرار منظومة «ميسكا» التي تنوي عدة دول خليجية اقتناءها. وتصل وعود الشراء العربية إلى نحو 20 مليار دولار.
وعلمت «الوسط» أن هنالك ضغوطات أوروبية مشتركة بدأت تمارس على رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير كيلا يغرد خارج السرب هذه المرة ويتفرد بإرسال قوات إلى جنوب لبنان تقف إلى جانب الإسرائيليين في حال حدوث صدام مع قوات حزب الله، ما قد يجر قوى إسلامية أخرى إلى الدخول في المواجهات وإشعال لبنان على النحو السائد في العراق. ولا يتردد بعض المقربين من الرئيس الفرنسي في الإشارة إلى أن المحافظين الجدد في البيت الأبيض يريدون فتح هذه الجبهة الثانية للتخفيف من الضغط عليهم في العراق.
وتنقل بعض الأوساط المقربة من قصر الاليزيه أن شيراك بدأ بتنبيه شركائه الإيطاليين من مغبة الوقوع في الشرك المنصوب بغض النظر عن حسن نوايا الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان. كذلك عدم تصديق الوعود التي تغدق عليهم من قبل إدارة بوش لناحية اقتسام النفوذ والمصالح بعد ضرب النظامين السوري والإيراني والذي يبدأ بتحجيم حزب الله عبر تجريده من سلاحه وفقاً للقرار 1701. وتحاول الحكومة الفرنسية في هذه المرحلة إقناع بعض أصدقائها في حركة 14 آذار بعدم التورط والسير بعيداً في ركب الطروحات الأميركية. ذلك لأن «إسرائيل» مصرة على جولة الحرب الثانية التي ستكون حتماً مدعومة من الولايات المتحدة الأميركية. ولا ترى باريس ضرورة لتصعيد لبناني مع سورية بغض النظر عن الفقرات الجارحة التي رددت في الخطاب الأخير للرئيس السوري بشار الأسد، والتي لم ترَ باريس مبرراً لها وخصوصاً مع تسجيل حليفها حزب الله انتصاره على الجيش الإسرائيلي.
باختصار، يمكن القول إن فرنسا ومعها كل من إيطاليا وإسبانيا وإلى حد ألمانيا - بعد ردود الفعل من قبل الأحزاب والقوى الألمانية المختلفة المعارضة لأية مشاركة في قوة اليونيفيل - ليست في وارد أن تكون أداة لاستراتيجية الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط. كما أنها ليست على الاستعداد بتاتاً لدفع الثمن من أرواح جنودها، وبالتالي استعداء للشعوب العربية مقابل وعود أميركية من الممكن ألا تتحقق أبداً. ولا تخفي بعض المصادر المسئولة داخل الاتحاد الأوروبي ببروكسل تخوفها من حدة المواقف المؤيدة والملتفة حول حزب الله في العالم العربي وانعكاساتها المستقبلية على الدول الأوروبية التي تبدي أي نوع من التعاطف مع «إسرائيل». وعلمت «الوسط» أن بعض هذه البلدان قد كلف مؤسسات مختصة بتحليل الأوضاع الداخلية في كل بلد عربي وإعداد دراسات بهذا الشأن تتضمن مدى تأثير الحرب اللبنانية على الجماهير العربية، كذلك تحديد أبعاد التحولات التي جرت على صعيد الرأي العام في هذه الدول؛ أيضاً ظاهرة الدعم التي حظي به الأمين العام لحزب الله السيدحسن نصرالله، الشيعي من قبل جماهير عريضة من السنة اعتبرته قائدها.
من ناحية أخرى، فإن بعض الدول الأوروبية قد طلبت من وسائل إعلامها التزام الصدق والموضوعية في متابعة ونشر الأخبار المتعلقة بـ «إسرائيل» ولبنان وفلسطين، والابتعاد عن الانحياز الفاضح كما جرى خلال الحرب على لبنان، وخصوصاً لدى تغطية مجزرة قانا. وبررت هذا الإجراء غير العلني بأنه يأتي تجاوباً مع المصالح القومية العليا للدولة. كما ألمحت إلى أن أية محاولة لتفسيره على كونه مساساً بحرية الرأي والتعبير، كما حصل في محطات معينة، سيكون الرد عليه مناسباً ورادعاً من جميع النواحي
العدد 1450 - الجمعة 25 أغسطس 2006م الموافق 30 رجب 1427هـ