على رغم أن البيان الرسمي في ختام أعمال الحوار السوري الأميركي نهاية الأسبوع الماضي كان مقتضبا، فإنه كان محددا في التعبير عنه بأنه تم «تبادل وجهات نظر والتوصل إلى تفاهم واضح بشأن الكثير من القضايا المهمة جدا للمنطقة وللعلاقات بين سورية والولايات المتحدة وبين العرب والولايات المتحدة».
ويعد الحوار السوري ـ الأميركي، على رغم إصرار الجانبين على أنه غير رسمي، أحد أهم القنوات التي يعمل الطرفان وبإصرار على نجاحها بهدف التوصل إلى تفاهمات حقيقية وصيغ جديدة مثمرة للعلاقة بين البلدين تعبر عن رؤية كل منهما لأهمية هذه العلاقات.
الحوار السوري ـ الأميركي بدأ بمبادرة من السفير الأميركي السابق في دمشق إدوار دجيرجيان الذي يعمل حاليا مديرا لمعهد بيكر (نسبة إلى وزير الخارجية السابق في إدارة بوش الأب جيمس بيكر). وعقدت الجلسة الأولى في يوليو/ تموز العام الماضي في جامعة رايس في ولاية تكساس وحضرها بيكر والسناتور أرلن سبكتر ودجيرجيان وكريستوفر روس وهم أيضا شاركوا في جلسة الحوار الثانية في دمشق باستثناء بيكر. وشارك معهم عدد من رجال الأعمال الأميركيين وأعضاء في مجلسي الشيوخ والنواب وأساتذة جامعيون.
هذا الحوار يكتسب أهمية مضاعفة عندما نتذكر دور «المعاهد» في رسم السياسة الأميركية. فعلى مدى الثلاثين عاما الماضية كانت الإدارة الأميركية تنفذ توصيات «معهد بروكينز» للعلاقات الدولية في اقترابها ورؤيتها للصراع العربي ـ الإسرائيلي، وكان «معهد بروكينز» يقوم بدراسات وأبحاث بناء على تكليف رسمي من الإدارة الأميركية. وبيكر الذي يشرف المعهد الذي يحمل اسمه على الحوار مع سورية هو قائد حملة الرئيس بوش الانتخابية وزميل لأركان الإدارة (ديك تشيني وكولن باول في إدارة الرئيس بوش الأب) كما هو المستشار عن بعد للإدارة الحالية.
والمراقب للعلاقات السورية ـ الأميركية يكتشف وبوضوح أن ثمة مستويين للعلاقات، مستوى الخطاب الإعلامي والمستوى العملي. فعلى صعيد الخطاب الإعلامي هناك مطالبة دائمة من سورية للولايات المتحدة بالتخلي عن الدعم المطلق لـ «إسرائيل» وبممارسة دور راعي عملية السلام بموضوعية وأمانة وعدم انحياز واتهام للولايات المتحدة بأنها السبب الرئيسي لاستمرار العنف في الأراضي المحتلة. أما على المستوى العملي فهناك اتصالات وتعاون يعبران عن رغبة البلدين في علاقات أكثر تميزا. فعلى هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول الماضي التقى وزير الخارجية باول مع نظيره السوري فاروق الشرع في اجتماع منفرد خرج بعده باول ليقول: «إن الاجتماع كان مثمرا وبناء». وأثناء جولة مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد ساترفيلد في المنطقة أعلن وبوضوح في كل من دمشق وبيروت «أن سورية قدمت مساعدات ومعلومات مهمة إلى الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب وأن الإدارة الأميركية تأمل في استمرار هذا التعاون». وهو المعنى الذي أكده السفير دجيرجيان الأسبوع الماضي في دمشق عقب انتهاء جلسة الحوار عندما قال: «إن هناك تعاونا أمنيا سياسيا بين سورية والولايات المتحدة بشأن تنظيم القاعدة والتيارات الإسلامية المتطرفة والإرهابية» وهو ما تناولته النقاشات الداخلية بين الأميركيين والسوريين عندما طرح الأميركيون مسألة وجود مكتب لحركة الجهاد الإسلامي في دمشق.
وبعيدا عن قضايا التعاون المالي والاقتصادي والثقافي والتجاري التي ناقشتها لجان داخل ورشة الحوار، بحث الجانبان أوضاع ما يمكن أن تسفر عنه ضربة عسكرية للعراق. وأكد دجيرجيان أن الوفد الأميركي اهتم كثيرا بالرؤية السورية، مُذكرا بورقتين أعدهما «معهد بيكر» ورفعهما إلى الإدارة الأميركية. الأولى بعنوان «اليوم التالي للضربة» والثانية «اليوم السابق».
وفي ملف عملية السلام بحث المجتمعون في جلسة الحوار الملفات السابقة التي تم الاتفاق عليها بين السوريين والإسرائيليين وهي ملفات الأرض والأمن والمياه، وأكد دجيرجيان أن «معهد بيكر» سيعمل على هذه الملفات لكي يعطي للسوريين والإسرائيليين عندما يحين وقت التفاوض (وهو سيأتي) مرجعية محددة، وخصوصا أن السوريين لا يريدون العودة إلى المفاوضات من نقطة الصفر. ولم ينفِ دجيرجيان أن الحوار هو خطوة للانتقال إلى مرحلة تالية، مؤكدا اهتمام الإدارة الأميركية به بقوله: «هذا الحوار يحظى بدعم وتأييد من مستويات عالية في الإدارة وهم يجدونه مفيدا ومن دون أوهام. ومن دون أن نعطي أنفسنا أهمية أكثر من اللازم أعتقد أنه سيكون مساعدا لسياسات البلدين».
ووفق مصدر دبلوماسي رفيع التقى عددا من أعضاء لجنة الحوار السوري ـ الأميركي في دمشق، فإن الإدارة الأميركية بعد 11 سبتمبر تنازعها اتجاهان، أولهما إدراج سورية ضمن «محور الشر» إلا أن قلق الإدارة الأميركية على أمن شرق المتوسط رجح الاتجاه الثاني وهو أن سورية من الممكن أن تكون شريكا مهما لأمن شرق المتوسط. فسورية هي الموقع الاستراتيجي الوسط بين وديان الفرات والنيل وصحاري الحجاز وشواطئ المتوسط.
واليمين الأميركي الذي يحكم الآن يعرف توصيف سورية كما عبّر عنه (جون فوستر دالاس) وزير الخارجية الأميركي في الخمسينات والأب الروحي لسياسات اليمين ومهندس سياسة حافة الهاوية. الوزير الأميركي قال عن سورية في مذكراته «سورية موقع حاكم في الشرق الأدنى. هذه أكبر حاملة طائرات ثابتة على الأرض في هذا الموقع الذي هو نقطة التوازن دائما في الاستراتيجية العالمية. هذا موقع لا يجازف به أحد. ولا يلعب فيه طرف».
وفي انتظار الجولة الثالثة من الحوار الأميركي ـ السوري التي ستعقد في جامعة رايس في هيوستن (تكساس)، تبقى العلاقات السورية الأميركية على مستويين، واحد للخطاب الإعلامي وآخر للمصالح الحقيقية المتبادلة
العدد 145 - الثلثاء 28 يناير 2003م الموافق 25 ذي القعدة 1423هـ