اليوم يبدأ الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان جولته إلى دول «الشرق الأوسط». وقبل وصوله إلى المنطقة سيتوجه إلى عاصمة الاتحاد الأوروبي (بروكسيل) للبحث في موضوع لبنان وامكانات تطبيق القرار الدولي 1701. الجانب الأوروبي متردد حتى الآن في التجاوب مع بنود القرار وتحديداً تلك المتصلة بتشكيل قوات دولية تابعة للأمم المتحدة (يونيفل) تقتصر مهمتها على مساعدة الجيش اللبناني على الانتشار ومراقبة الحدود الدولية وضمان منع تسلل المقاتلين أو اختراق «الخط الأزرق» الفاصل بين البلدين.
الدول الأوروبية كانت متحمسة على مساعدة لبنان في وقف النار والمشاركة عسكرياً في تأليف قوة دولية تضمن الحدود وتضبط الأمن. وفي ضوء هذا الحماس جرى تضمين القرار الدولي تلك الإشارة التي قضت بارسال 15 ألف جندي من الأمم المتحدة ومرافقة 15 ألف جندي لبناني للانتشار سوية في منطقة عازلة تقع بين الخط الأزرق ونهر الليطاني. وحين صدر القرار وجرى الاتفاق على وقف اطلاق النار التزمت الحكومة اللبنانية بمسئوليتها وأرسلت جنودها إلى الجنوب وصولاً إلى الحدود إلا أن دول الأمم المتحدة تراجعت عن مواقفها متذرعة بوجود عقبات وطالبت بضمانات دولية تمنع تعرض قواتها لهجمات وضربات.
تراجع الدول التي وعدت بإرسال قواتها عن الالتزام بمسئولياتها اربك الأمم المتحدة وجعلها في موقف محرج دولياً الأمر الذي شجع «إسرائيل» على اعتماد سياسة تصعيدية ربطت انسحاب قواتها من المناطق التي احتلتها في «القشرة» بانتشار القوات الدولية. كذلك رفضت تل ابيب رفع الحصار البحري والجوي عن لبنان قبل تشكيل القوات الدولية وارسالها إلى الجنوب. وهكذا تحول الموضوع إلى مشكلة بعد أن وجدت دول مجلس الأمن في تشكيل القوات الدولية - اللبنانية مدخلاً للحل.
الآن كما يبدو أخذت الدول الأوروبية تراجع مواقفها السلبية بعد حصولها على ضمانات أميركية - إسرائيلية حملتها معها وزيرة الخارجية تسيفي لغني في جولتها على عواصم القارة وتحديداً روما وباريس. ولهذا السبب قرر عنان التوجه مباشرة إلى بروكسيل للتوافق مع دول الاتحاد على خطة عمل تضمن ارسال قوات أوروبية إلى الجنوب تشكل نواة القوة الدولية وتعطى لها صلاحيات القيادة والتقرير.
هذا التغيير في المواقف الأوروبية من إيجاب إلى سلب وثم إيجاب لم يتبلور نهائياً حتى الآن، كذلك لم تفهم الأسباب والمسببات السياسية التي أسهمت في تعديل المواقف ثلاث مرات في أقل من عشرة أيام. وبانتظار تبلور السياسة الأوروبية تجاه لبنان ومشكلة الحدود مع «إسرائيل» تعتبر زيارة عنان للمنطقة خطوة حاسمة لتوضيح الكثير من النقاط العالقة.
جولة «شرق أوسطية»
يرجح ان يبدأ عنان جولته «الشرق الأوسطية» غداً أو بعد غد. ويتوقع ان يزور خلالها أنقرة للبحث في ارسال قوات تركية إلى الجنوب. وبعد ذلك تبدأ الخطوات الحقيقية إذ سيزور خلالها تل ابيب وبيروت ودمشق وطهران وربما غيرها من عواصم اقليمية.
هذه الجولة تعتبر الأخطر في حياة عنان السياسية إذ سيتقرر في ضوء نهاياتها الكثير من الأمور الجوهرية التي يتوقف عليها مصير المنطقة حرباً أم سلماً. وإذا صحت الأحاديث والتسريبات فان الأمين العام يحمل في جعبته سلسلة مشروعات وعروض واقتراحات للمناقشة والتسويق والمبادلة وهي كلها خاضعة للبحث والتعديل والتصويب لتكون جاهزة للصدور في نهاية المطاف في مشروع قرار ضخم يتضمن مختلف قضايا الصراع في المنطقة العربية - الإسلامية. هذا جانب من الكلام الكبير الذي يشاع ويترافق مع بدء عنان في جولته. وهناك جانب آخر من الكلام الصغير الذي يقول ان جعبة الأمين العام ليست كبيرة إلى حد انها تستوعب كل قضايا المنطقة وبالتالي فإنه سيكتفي بالاستماع إلى وجهات نظر تتصل مباشرة بالموضوع اللبناني وتفرعاته الاقليمية وتداعياته المحلية.
بين الكلام الكبير والكلام الصغير هناك مراهنات ضخمة على جولة عنان حتى لو اقتصرت عروضه واقتراحاته على نقاط خلافية محدودة.
في تل ابيب مثلاً يرجح ان يتركز كلام عنان على موضوع تطبيق حكومة إيهود أولمرت تلك الفقرات الواجب على «إسرائيل» تنفيذها بشأن القرار 1701. وتتضمن سلسلة نقاط لها علاقة بالقوات الدولية وانتشار الجيش اللبناني ورفع الحصار البحري الجوي والانسحاب من المواقع المحتلة وتبادل الأسرى ومزارع شبعا وتسليم خريطة الألغام وضمان عدم تهديد أمن لبنان واستقراره والعودة إلى اتفاق الهدنة واحترام حدود «الخط الأزرق» وسيادة الدولة على أراضيها.
هذه النقاط معروفة ومتداولة. أما النقاط المجهولة أو المسحوبة من سوق التداول فهي تلك المتصلة بموضوع الجولان وامكان تطبيق جوانب من القرارين الدوليين 242 و338 اللذين اشير إليهما في مقدمة القرار 1701. الاشارة إلى القرارين كانت ملفتة. وازدادت أهميتها بعد صدور تصريحات صحافية رسمية وغير رسمية من الجانبين السوري والإسرائيلي تلمح إلى استعداد الطرفين للبحث في موضوع الجولان بعد غياب طويل عن المسرح السياسي. فهل يحمل عنان مفاجأة في هذا الشأن أم أنه سيكتفي بالتلويح إلى هذه المسألة؟ لننتظر.
في دمشق أيضاً يرجح أن يكرر عنان الكلام نفسه. فالأمين العام سيتطرق إلى فقرات من القرار 1701 تتعلق بالجانب السوري وخصوصاً مزارع شبعا والحدود اللبنانية ومراقبة المعابر والمداخل. كذلك سيشمل البحث موضوع ضبط العلاقات بين البلدين وفق ما تنص عليه فقرات القرار 1680 الذي أشير إليه أيضاً في 1701. هل سيكتفي عنان بهذا الحد من الكلام مع الجانب السوري أم سيوسع نطاق برنامجه ليشمل موضوع الجولان وامكانات العودة إلى طاولة المفاوضات لبحث هذه المسألة المزمنة؟ لننتظر أيضاً.
وفي طهران يرجح أن يتطرق عنان في زيارته إلى مجموعة نقاط عالقة وحساسة وكلها مترابطة في ابعادها السياسية والميدانية. ولا شك في أن المباحثات التي سيجريها الأمين العام مع القيادة الإيرانية تشكل حجر الرحى في المفاوضات «الشرق الأوسطية» لأنه سيتم في ضوء نتائجها اتخاذ سلسلة خطوات ستكون لها انعكاساتها على مختلف القضايا من غزة ولبنان إلى سورية والعراق.
المعلومات حتى الآن غير واضحة ولكن الترجيحات الصحافية تشير إلى أن مباحثات عنان مع القيادة الإيرانية ستكون الأهم في اعتبار انها ستتناول حزمة كاملة من النقاط تبدأ بالموضوع النووي (تخصيب اليورانيوم) وتمر بالعراق وتنتهي بالملف اللبناني وغزة. فهل سيتطرق عنان في طهران لكل هذه القضايا أم يكتفي بفتح الملف النووي والعلاقات الخاصة مع حزب الله؟ لننتظر أيضاً.
لبنان ومسئولياته
يبقى لبنان. في بيروت يرجح أن يبحث عنان مع الحكومة وما تمثله من اطياف مختلفة المشارب والمذاهب في مجموعة نقاط تتصل بأكثر من قرار دولي. فلبنان الصغير مطلوب منه التعامل مع قضايا اقليمية كبيرة لا يستطيع حلها أو استيعابها من دون مساعدات دولية وعربية واقليمية قريبة وبعيدة. وفي هذا السياق يرجح أن يستكشف عنان امكانات لبنان ومدى قدرة حكومته في التعامل أو تطبيق فقرات دولية موزعة على أكثر من قرار، فهناك 1701 وما يتضمنه من ملابسات محلية واقليمية. وهناك 1559 وما يشمله من صواعق تفجير، وهناك 1680 وما يتناوله من مفخخات. وبهذا المعنى المطلوب من لبنان تنفيذ سلسلة نقاط ساخنة تتضمنها فقرات منتشرة في ثلاثة قرارات. بينما المطلوب من «إسرائيل» تنفيذ فقرات محددة كذلك من سورية... والباقي على لبنان أن ينفذها وهو في وضع عاجز وغير قادر على إدارة المشكلات والمصائب الاضافية التي تورط بها خلال العدوان الأخير.
إذاً بدأ العد العكسي للحرب أو السلام في المنطقة مع بدء عنان جولته «الشرق الأوسطية». وبين الكلام الكبير والكلام الصغير الذي يقال في مناسبة الزيارة المكوكية لا يمكن توقع الكثير إلا إذا كانت هناك متغيرات دولية واقليمية غير منظورة. لننتظر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1449 - الخميس 24 أغسطس 2006م الموافق 29 رجب 1427هـ