منذ ندوة «تدمير البيئة العراقية» التي عقدت بجمعية اصدقاء البيئة في 2003 ونحن نراقب برعب وإحباط بالغين معاناة البيئة العراقية والإنسان العراقي وهي تأخذ في التفاقم بصورة شبه خيالية في ظل تزييف صهيوني أميركي للحقائق ومسايرة من قبل خونة العلم وخونة الضمير وتمويه إعلامي عام أو تجاهل لحقيقة مايجري في مهد الحضارات حيث سنت أول شريعة موثقة للحكم البشري.
تطالعنا الصحف في ظل انشغالنا بعجزنا عن إنقاذ أطفال فلسطين ولبنان من الإرهاب الهمجي الصهيوني بخبر يقول ان مشرحة بغداد استقبلت نحو ألفي جثة خلال شهر يوليو/ تموز لوحده. شهر واحد حصد من الأرواح العراقية ألفين، والأكثر ترويعا وبشاعة أن معظم هذه الأرواح التي انتزعت من أجسادها تعرضت للتعذيب!
أية حقوق بيئية إنسانية للإنسان لم تنتهك بعد في العراق؟ حقه في الأمن والأمان أم في المأوى أم حقه في بيئة صحية سليمة أم حقه في الحياة بكرامة والحماية من الامتهان والتشريد والتعذيب؟
كمتخصصة في مجال صون الطبيعة والمحميات وكناشطة في الدفاع عن الحقوق البيئية أشعر بحرج كبير حين أتساءل بيني وبين نفسي عن مصير التنوع الإحيائي والطيور النادرة المقيمة والمهاجرة والتي تختص بها العراق، والأهوار وكائنات دجلة والفرات، بينما الإنسان العراقي يرزح ومنذ أكثر من خمسة عشر عاماً تحت أسوء ظروف يعيشها أي شعب نعرف عنه على وجه الأرض إلى جانب الشعب الفلسطيني الذي يعيش غريبا متهما مسلوب الحقوق في أرضه.
يرى كاظم المقدادي (والذي نعتد برأيه ونحفظ مقالاته التي كتبها على مدى السنوات العشر الماضية) أن العراق يعد أسوأ بلدان العالم على الإطلاق بيئيا فلم يعد سرا ان بيئته مشبعة بمختلف أصناف الملوثات الخطيرة الكيماوية والبيولوجية والنووية فضلا عن القنابل والألغام غير المنفجرة والمنتشرة في كل مكان.
المتتبع للدراسات والتقارير التي نشرها بعض العلماء والباحثين (لاسيما الأوروبيين) ممن لم يخضعوا لإرهاب الدولة العظمى وأذنابها، يعلم أن مخلفات حرب 1991 والتي استخدم فيها الأميركان وأحلافهم مئات الأطنان من الأسلحة المحرمة عالميا ولاسيما اليورانيوم المنضب كانت ذات آثار بالغة على البيئة والإنسان عاجلة وآجلة قادرة على الانتشار والتلويث، ثم أتى عدوان 2003 بإشعاعاته السامة القاتلة التي وجهت للمدن والمدنيين بشكل مباشر واستخدمت فيها آلاف الأطنان من اليورانيوم المنضب التي يرى عضو أنصار الإنسانية للأمراض السرطانية في مدينة البصرة جاسم محمد سلمان أن ذرة ملوثة واحدة منها فقط تكفي لقتل إنسان إذا استقرت في رئته فما بالك بمئات بل وآلاف الأطنان منها.
ومن يتذكر عمليات السلب والنهب التي تفشت في العراق إبان ما يسمى بـ «تحرير العراق» والتي جرت تحت ظل أعين القوات المحتلة من دون أن تحرك ساكنا وطالت أعظم متاحف الأرض وسجل أعرق تاريخ حضاري وتراث إنساني فضلا عن المحال التجارية والوزارات جميعا ماعدا وزارة النفط التي حرصت دبابات الأميركان على تطويقها،
يتذكر أن عمليات النهب والسلب تلك وللاسف الشديد طالت أيضا مركز هيئة الطاقة النووية العراقية في التويثة وشملت مئات البراميل والحاويات الخاصة الحافظة للمواد المشعة في المركز، وتم استخدام بعضها في أنشطة بشرية يومية كنقل وتخزين المياه بعد أن تم إفراغ محتوياتها الخطرة في مياه المجاري القريبة من المنازل بل وفي السواقي والمزارع ونهر ديالى.
وجاءت نتيجة القياسات للعشرات من البيوت المحيطة بمقر التويثة لتؤكد حدوث تلوث إشعاعي ووصوله إلى مقتنيات المنازل بنسب خطيرة جدا تصل إلى أكثر من الحد الآمن بمئات المرات أو بوصف آخر فإن العراقيين المقيمين في مناطق قريبة من التويثة (من أسر ونساء وأطفال) يستقبلون في نصف ساعة من الإشعاعات الضارة مايعادل الحد الأقصى للنسب الآمنة التي من الممكن للإنسان أن يستقبلها ليس خلال ساعة أو يوم أو أسبوع بل خلال عام كامل! ما يعني زيادة عالية جدا في احتمال اصاباتهم بالأمراض الخطيرة ومن أهمها الأمراض السرطانية والتشوهات الجينية. بل إن الوكالة الدولية للطاقة الذرية اعترفت أخيرا قبل ثلاثة أشهر وبعد طول صمت (يجعلها مسيئة لأمانة العلم والإنسانية ) بوجود تلوث إشعاعي خطير في منطقة التويثة يهدد أكثر من الف عراقي مقيمين قريبا منها من بينهم أطفال.
تلك التويثة وحدها! إلا أن العراق كله غير آمن، وهذا ما أثبتته القياسات التي سجلها الكثير من الراصدين من منظمة السلام الأخضر (ecaep neerg) والعلماء الآخرين الذين كانت لديهم مهمات محددة أو مفتوحة من قبل منظمة الصحة العالمية أو من الذين ذهبوا للعراق بتكليف من مراكز بحثية من تلقاء انفسهم وبواعز من المسئولية العلمية والضمير الإنساني ومنهم المركز البحثي الدولي المستقل المتخصص بطب اليورانيوم والذي أجرى مسحا واسعا ودراسات علمية ميدانية لقياس الإشعاع في جميع مدن وسط وجنوب العراق، وجاءت النتائج المروعة لتلك الدراسات لتبرهن علميا الأمر المتوقع من الجميع علماء وغير علماء : التلوث الإشعاعي منتشر في كل مكان وفي كل شيء (وبنسب تجاوزت الحد المسموح به بصورة مخيفة تصل إلى آلاف المرات) ليشمل مكونات البيئة الأساسية الماء والهواء والتربة ولتسجل قياساته ليس فقط من خلال الهواء والمنشآت بل ومن خلال أجسام ضحايا العدوان الآثم ممن قتلوا وممن مازالوا أحياء يمارسون حياتهم ويحمدون الله أن القنابل العنقودية والرشاشات وآليات القتل والتصفية الجسدية لم تطلهم!
هذه مقدمة ولنا عودة لإكمال صورة من صور، لأبشع جريمة ترتكب في حق البيئة والإنسان، نحمل معنا ابد الدهر عاروإثم أننا نشهدها ونحاول غض الطرف عنها عجزا وخذلانا
إقرأ أيضا لـ "خولة المهندي"العدد 1447 - الثلثاء 22 أغسطس 2006م الموافق 27 رجب 1427هـ