تعمل الولايات المتحدة الأميركية في الحرب الإسرائيلية على لبنان والدائرة حالياً على خطين، الأول منح «إسرائيل» اكبر قدر ممكن من الوقت لتحقيق أهداف استراتيجية يمكن جعلها انتصارا، والثاني ممارسة اقصى الضغط على لبنان لتنفيذ القرار الفرنسي الأميركي للحل، ولاسيما بعد أن أدخلت واشنطن تعديلات على مشروع القرار الدولي جعلته أقرب ما يكون الى الأهداف الإسرائيلية من هذه الحرب. في خضم الحربين الشرستين اللتين دارت احداهما على الأرض في لبنان والاخرى مازالت على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي أروقة الأمم المتحدة وبعض العواصم العربية وغير العربية تغيب عن بال الكثيرين حقيقة المشروع الإسرائيلي للبنان، وخصوصاً الأهداف الاستراتيجية المزمنة لتل أبيب في لبنان، وتحديداً تلك المتعلقة بتحييد لبنان وإخراجه من الصراع العربي الإسرائيلي، ليس من أجل الاستفراد بسورية فقط، وإنما من أجل منع الخصوصية اللبنانية من إنتاج نماذج جديدة للصراع على مستوى المقاومة. فلبنان تاريخيا كان يصارع «إسرائيل» عبر المقاومة وليس عبر قواته النظامية التي لم ترتق في التسليح يوما ما إلى مستوى التصدي للجيش الإسرائيلي، وذلك نتيجة عوامل عدة، سياسية وغير سياسية. وإذا كانت واشنطن الآن أكثر إلحاحا على إرغام لبنان والعالم على القبول بوجهة نظرها في الحل، ومعها ضمنا «إسرائيل»، فإن الأخيرة لم تخف في أي لحظة من اللحظات ومنذ أمد بعيد ما تريده من لبنان، ولذلك رأينا كيف أن الخطاب الإسرائيلي ومنذ الساعات الأولى للحرب الأخيرة سارعت إلى إعلان أهدافها بوضوح، وهي أهداف قديمة تعود إلى ما قبل نشوء حزب الله العام ،1982 إذ تطالب «إسرائيل» بمنطقة أمنية في الجنوب اللبناني شبه منزوعة السلاح. ولقد بني اتفاق 17 مايو/ أيار العام 1983 على قاعدة المنطقة الأمنية التي أخذت حيزاً كبيراً من الاتفاق ذاته، ومن ملاحقه وذيوله المرفقة. وهذه المنطقة تمتد من جنوب الليطاني إلى الحدود اللبنانية الفلسطينية المحتلة، وفرضت «إسرائيل» على الجيش اللبناني في الاتفاق المشار إليه أن يكون أشبه بقوة أمن داخلي تنحصر مهمته في حفظ أمن حدود المستعمرات الإسرائيلية المنتشرة على طول الحدود اللبنانية الفلسطينية المحتلة، وحدد في ملحق الاتفاق العديد والعتاد المفروض استخدامه من قبل الجيش اللبناني في المنطقة المشار إليها، في وقت لم يلحظ الاتفاق أي شيء بالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي وعديده وعتاده في الجهة المقابلة من الحدود. ففي المادة الثالثة من الاتفاق (بحسب ما جاء في النص الذي أصدره لبنان ضمن ما عرف بالكتاب الأبيض عن هذا الاتفاق) تنص على ما يأتي: «رغبة في توفير الحد الأقصى من الأمن للبنان و(إسرائيل) يقيم الفريقان ويطبقان، منطقة أمنية، وفقاً لما هو منصوص عليه في ملحق هذا الاتفاق». وفي الفقرة الرابعة من المادة السادسة من مشروع القرار الفرنسي الأميركي نلاحظ العودة إلى المنطقة الأمنية التي تطالب بها «إسرائيل»، إذ في هذه الفقرة جاء ما يأتي «... تسويات أمنية لمنع استئناف الأعمال العدائية، بما في ذلك إقامة منطقة حرة من كل هيئة مسلحة، بين الخط الأزرق ونهر الليطاني، باستثناء تلك التي لقوات الجيش وقوات الأمن اللبنانية، والقوات الدولية ذات التفويض من الأمم المتحدة والتي سترابط في هذه المنطقة». اتفاق «17 أيار» فرضه الاحتلال الإسرائيلي العام 1982 لأكثر من نصف الأراضي اللبنانية والنظام السياسي الذي أتت به الدبابات الإسرائيلية، لكن وفي أقل من عام اسقط اتفاق العار هذا وسقطت معه آنذاك نظرية «العصر الإسرائيلي» في لبنان، وكانت المقاومة الوطنية اللبنانية فرضت على قوات الاحتلال الانسحاب من جزء كبير من الاراضي اللبنانية المحتلة بين العامين 1982 و1985 حين اندحرت قوات الاحتلال من جزء كبير من الأراضي اللبنانية التي كانت قد احتلتها في غزوها العام .1982 ومنذ العام 1985 وحتى العام 2000 بقت قوات الاحتلال في المنطقة التي عرفت لاحقاً بـ «الشريط الحدودي» أو ما كانت تطلق عليه «إسرائيل» «الحزام الأمني وفي مايو العام 2000 فرضت المقاومة الإسلامية على القوات الإسرائيلية الاندحار من هذه المنطقة من دون أن تحقق هدفها وهو إقامة المنطقة الأمنية التي عملت طويلاً لأجلها. المتابع لتطورات الحوادث في الجنوب اللبناني يلاحظ أن الخطاب الإسرائيلي منذ الاندحار في العام 2000 حتى الآن كان يركز على إقامة منطقة منزوعة السلاح في الجنوب اللبناني، وعلى اخلاء تلك المنطقة من أي وجود عسكري وسياسي لأي فصيل لبناني أو غير لبناني، وفي الواقع اللبناني من الصعب جداً تحييد أي منطقة سياسيا نتيجة التعددية السياسية التي يتمتع بها هذا البلد الصغير، ولذلك إذا كانت المنطقة الأمنية المطروحة في القرار المذكور اعلاه محاولة لجعل مساحة كبيرة من الجنوب اللبناني جداراً أمنياً لحماية الحدود الإسرائيلية فإن القوات الدولية المطروحة في المشروع، وجعلها تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، هي في واقع الأمر بديلاً لقوات الاحتلال الإسرائيلي وهي لا تختلف كثيراً عما ورد في اتفاق 17 أيار فقد ورد في المادة السابعة «باستثناء ما هو منصوص عليه في هذا الاتفاق وبناء على طلب الحكومة اللبنانية وموافقتها، ليس هناك ما يحول دون انتشار قوات دولية على الأرض اللبنانية لمؤازرة الحكومة اللبنانية في تثبيت سلطتها. ويتم اختيار الدول المساهمة الجديدة في هذه القوات من بين الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية مع الفريقين». وجاء في المادة العاشرة من القرار «يعرب المجلس (أي مجلس الأمن) عن نيته في أعقاب تصديق حكومة لبنان وحكومة (إسرائيل) مبدئياً على المبادئ والعناصر للحل على المدى البعيد كما طرحت في البند 6 آنف الذكر، وبعد تصديقهما التخويل بقرار اضافي، بموجب الفصل 7 من الميثاق، بمرابطة قوة دولية تتلقى تفويضا من الأمم المتحدة لدعم قوات الجيش اللبناني وحكومته في خلق محيط آمن والمساهمة في تطبيق وقف دائم للنار والحل على المدى البعيد». إن القوات الدولية المطروحة في «اتفاق 17 أيار» كان الهدف منها جعل منطقة الجنوب اللبناني تحت الوصاية الدولية، ليس حماية له من «إسرائيل»، انما من أجل خلق عازل أمني دائم للحدود الإسرائيلية مع لبنان، ولذلك فإن القوات الدولية الجاري الحديث عنها الآن، وقوات الجيش اللبناني، ليس لهما أي مهمة خارج نطاق قمع أي قوة مقاومة، أياً كان الانتماء السياسي لهذه المقاومة، ولن يكون بمقدور هذه القوات المشتركة ردع أي عدوان إسرائيلي تحت أي حجة في المستقبل، إذ إن «إسرائيل» لن تمتنع عن انتهاك الحدود اللبنانية، برياً وبحرياً وجوياً، فالتجربة التي تلت توقيع اتفاق الهدنة بين لبنان و«إسرائيل» في 23 مارس/ آذار العام 1949 سجلت أكثر من ألفي خرق لهذا الاتفاق، باستثناء الغزو الأول في سبتمبر/ أيلول العام ،1972 والغزو الثاني في مارس/ آذار العام ،1978 والاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 والذي كان من نتيجته فرض نظام سياسي موال بالمطلق لإسرائيل وكان اتفاق 17 مايو من اهم ما نتج عن هذا الغزو. إن قوات الجيش اللبناني التي أقر إرسالها مجلس الوزراء اللبناني إلى الجنوب يبلغ عدها 15 ألف جندي، وهي بالمناسبة مخالفة لما نص عليه اتفاق الهدنة المشار إليه اعلاه، إذ إن الاتفاق المذكور حدد قوات الجيش اللبناني بنحو ثلاثة آلاف عنصر من مختلف القوات المسلحة اللبنانية وهي أقرب في عدها إلى ما نص عليه «اتفاق 17 أيار»، اما القوات الدولية المطروحة في القرار الفرنسي الأميركي عددها يبلغ 15 ألف جندي، ما يعني أن 30 ألف جندي سينتشرون في الجنوب اللبناني، وفي ظل غياب مهمة دفاعية واضحة عن لبنان، للجيش اللبناني والقوات الدولية، فإن المهمة تكون في واقع الأمر خوض مواجهة مع المقاومة والعمل على نزع سلاحها. وتجدر الاشارة هنا إلى أن القوة العسكرية اللبنانية التي حددها «اتفاق 17 أيار» كانت لواءين من الجيش، احدهما يتألف من الميليشيات التي كانت تدعمها «إسرائيل» منذ العام ،1976 ولقد ورد في الفقرة (ج) من المادة الثانية من ملحق اتفاق 17 أيار «يتمركز في المنطقة الأمنية لواءان من الجيش اللبناني يكون احدهما إقليمياً ومنطقة عمله هي البقعة الممتدة من الحدود اللبنانية الإسرائيلية حتى الخط المرسوم على الخريطة المرفقة». أي أن الهدف من القرار الفرنسي الأميركي، بحسب التعديلات الأميركية في نهاية المطاف إعادة إنتاج «اتفاق 17 أيار» والتحضير لصراع بين هذا الجيش والمقاومة، ذلك لأن القدرة التسليحية للجيش اللبناني ليست بالمستوى التي تؤهله للتصدي للجيش الإسرائيلي، والمقاومة في أي مواجهة مستقبلا مع الجيش اللبناني لن تستخدم ترسانتها الاستراتيجية لأنها تقاتل على أرضها وبين جماهيرها، وحتى مع دعم قوات الجيش اللبناني بقوات «إرساء استقرار دولية» (بحسب التسمية الإسرائيلية) فإن المقاومة لن تستطيع استخدام ترسانتها الاستراتيجية (الصواريخ والأسلحة الثقيلة) لأنها حين ذاك تكون تعمل على الانتحار وتعرية نفسها بين جماهيرها. وهنا تجدر الاشارة إلى أن القرار السياسي الآن القاضي بعدم التصادم بين الجيش والمقاومة واحتضان الأول الأخيرة ليس قراراً استراتيجياً في لبنان فهو خاضع في واقع الأمر إلى التبدلات السياسية التي يشهدها لبنان كل بضع سنين، وإذا أخذنا في الاعتبار ما أدت اليه المماحكات السياسية اللبنانية في السنتين الماضيتين، والمواقف التي أعلنت من قبل بعض الاطراف اللبنانية في الأسابيع الأخيرة لأمكننا استشراف ما يمكن أن تنتهي إليه التطورات بعد نحو عام وأكثر بقليل من الآن، لاسيما بعد أن تعمل الأطراف المراهنة على الولايات المتحدة الأميركية على استثمار حجم الدمار والخسائر التي مني بها لبنان في التجييش ضد المقاومة. القرار الفرنسي الأميركي يلحظ سلسلة القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن فيما يتعلق بالقضية اللبنانية الإسرائيلية ويركز على القرارين 1559 (2004) وقرار 1680 (2006) وفي هذين القرارين مطالبة واضحة بنزع سلاح الميليشيات كافة في لبنان، والمقصود بذلك نزع سلاح المقاومة إلى أي جهة انتمت هذه المقاومة، فإذا كان العمود الفقري الآن للمقاومة من حزب الله فإن هذا في واقع الأمر مرحلة من مراحل المقاومة اللبنانية التي مرت منذ العام 1949 في أطوار عدة بدأت بالمبادرات الفردية وتطورت الى التنظيمات غير الدينية والعلمانية التي انشأت اذرعاً عسكرية لها، وانتهت في هذه المرحلة الى حزب الله. وكما اسلفنا فإن القرار الفرنسي الأميركي في جوهره ليس أكثر من اعادة إنتاج لـ «تفاق 17 أيار» عبر قرار دولي، على رغم أن الظروف التي فرضت «اتفاق 17 أيار» العام 1982 تبدلت كثيراً اليوم و«إسرائيل» المنتصرة في تلك المرحلة مهزومة الآن، على رغم الاختراقات البرية التي حققتها في عدد من المناطق الجنوبية، لكن الولايات المتحدة تعمل على فرض الشروط الإسرائيلية بأي ثمن. إن ما تعمل عليه الولايات المتحدة هو جعل لبنان حقل ألغام في المستقبل، وابقاء لبنان مختبراً للمشروعات في المنطقة ككل، وخصوصاً أن المصاعب الأميركية في العراق تكاد تصل إلى حد إعلان الفشل في إمكان تحقيق الهدف الذي تسعى إليه واشنطن وهو «الشرق الأوسط الجديد» الذي اعتبرت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس الحرب الإسرائيلية على «بداية ولادة الشرق الأوسط الجديد»، لكن يبدو أن هذا «الشرق الأوسط الجديد» بات غروباً للاستقرار في المنطقة ككل نتيجة عدم الادراك الأميركي للحقائق الاثنية والدينية والديموغرافية والسياسية في هذه المنطقة. ولذلك تعمل واشنطن اقصى جهدها من أجل عدم السماح بتوظيف الانتصار المصنوع بالدم والصمود وبكل هذه التضحيات في المصلحة اللبنانية انما توظفيه لمصلحة «إسرائيل». وما القضم الذي تعمل عليه القوات الإسرائيلية للأراضي اللبنانية في هذه المرحلة إلا محاولة لتهيئة الأرض لحقل الالغام هذا. لن تكون كل الضمانات الدولية التي يتحدث عنها البعض الآن سوى اضغاث أحلام سيدفع الجنوبي ثمنها مرة أخرى ولن يسمح له بالشعور بالانتصار على رغم كل الدمار والدم والمعاناة التي عانها طوال العقود الماضية، لاسيما في الأسابيع الأخيرة. ففي لبنان لم تكد تنتهي الحرب على الجبهة حتى تندلع المواجهة السياسية ليحصد كل فريق الثمار التي وعد نفسه بها، لاسيما الفريق الذي يراهن الآن على «إسرائيل» والولايات المتحدة الأميركية في التخلص من المقاومة وحزب الله. وهنا لابد من الاشارة إلى أن التدمير الممنهج الذي استخدمته «إسرائيل» في مختلف المناطق الجنوبية اللبنانية الهدف منه جعل المنطقة فارغة سكانياً لفترة زمنية، وذلك ادراكا منها ان المقاومة ليست مستوردة من الخارج انما هي من أبناء المنطقة، وبالتالي تكون هذه الفترة مرحلة انتظار لما ستسفر عنه التبدلات السياسية في لبنان، لاسيما لجهة تحضير الأجواء السياسية لتصفية المقاومة. والسؤال الواجب البحث عن إجابة عنه: أ إلى هذا الحد ممنوع على اللبناني عموماً والجنوبي خصوصاً الانتصار؟
العدد 1442 - الخميس 17 أغسطس 2006م الموافق 22 رجب 1427هـ