العدد 144 - الإثنين 27 يناير 2003م الموافق 24 ذي القعدة 1423هـ

ثقافة خفية

أفق آخر (منصور الجمري) editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

لعل أبسط تعريف للثقافة (وهذا التعريف قد يعترض عليه بعض فلاسفتنا المعاصرين) هو مجموعة القيم والمفاهيم والرموز والألفاظ والغمز واللمز التي تحدد أسلوب التعامل بين مجموعة من الناس. والثقافة على أساس هذا التعريف تعني أن من يريد أن يتعرف على ثقافة أمة أو مجموعة بشرية أو شركة أو مؤسسة دولية أو أهلية فما عليه إلا أن يستقرئ القيم والمفاهيم والألفاظ والألغاز والطرائف والكتابات الجدارية بل حتى التي في دورات المياه، لكي يتعرف بدقة على ثقافة تلك الفئة. ويخطئ من يحاول استقراء ثقافة فئة معينة بأن يقتصر على ما يكتب رسميا. لان ما يكتب رسميا يراعى فيه بعض المجاملات التي تفرضها حاجة تلك الفئة لتحاشي الفضائح.

هناك إذا ثقافة غير رسمية تلازم وتوازي وقد تعاكس الثقافة المعلنة.

وتجتهد المؤسسات الفكرية في البلاد المتقدمة لاستقصاء بقايا الثقافات القديمة في اللغة الدارجة واللغة المستخدمة في الإعلام لتقف أمام بعض المصطلحات هنا وهناك. فمثلا بدأت حركة في الثمانينات (وأصبحت الآن هي الأساس) تدعو الكتّاب الذين يؤلفون الكتب في مختلف المجالات إلى عدم الاقتصار على وصف الأشخاص وكأنهم ذكور. ولذلك فإن الكتب الحديثة قد تتحدث عن شخصيات معينة وكأنها امرأة وبعضها الآخر قد يتحدث بما ينبئ عن مساواة في الاعتبار بين المذكر والمؤنث حين يكتب ليقول مثلا «ان هذا الرجل وهذه المرأة» بصورة متكــــافئة. وهــــناك البـــعض ممـن يكتـــب باللغة الإنجلــــــــيزية «he or ??she?» أو يكتب «?h/s?» لكي يعلن أنه لا يفرق بين الرجل والمرأة في مجالات الحياة. وحركة تصحيح اللغة السياسية «political correctness» تراقب كل مطبوعة وكل إذاعة وتلفزيون وكل برنامج لكي تمارس نشاطها المضاد لكل ما تعتقد أنه يناقض الأفكار المتطورة على المستوى الثقافي. وفي السنوات الأخيرة في بريطانيا، مثلا، قامت المؤسسات المسئولة عن مهنة الأدوات والأنابيب المنزلية والصحية بتغيير القاموس المستخدم لتعريف المهنة لإزالة أسماء الآلات التي تحمل معاني جنسية فاضحة قد تخل بأدب المهنة.

ولو راجعنا لغاتنا المستخدمة في بلداننا لرأينا أن هناك اختراقا غير صحيح لكثير من المصطلحات التي تخالف ديننا وعقائدنا وثقافتنا. فمثلا هناك من يقرن اللون الأسود بالعبيد. ولا يتحرج بعضهم من الإشارة الى «فلان العبد» قاصدا فلانا ذا اللون الأسود، كما لا يتحرج بعضهم من أن يقرن اللون بأمور ما أنزل الله بها من سلطان، هذا على رغم ان الرسول (ص) كان - ولايزال - اسمى شخصية خلقت لتعلم البشرية ان أمورا كاللون والعرق وغيرهما ليست أسس مفاضلة.

ولو أردنا الدخول في كثير مما يقال ويطرح في ثقافاتنا غير الرسمية لوجدنا اختراقا لنا من أفكار عنصرية وغير إنسانية ودكتاتورية، فهناك البعض ممن لايزال يعتقد ان المرأة «أقل شأنا» من الرجل وأنها «كالعبدة» عليها ان تخضع لدكتاتورية الرجل الذي يبحث عن شخص ينفّس من خلاله عن الظلم الواقع عليه من الحكم الظالم والرئيس الظالم. وهنا من لايزال يعتقد ان بعض الأشخاص أفضل من غيرهم بسبب العرق او النسب او الولادة في عائلة معينة. وقد صادف ان أحد اخواننا في الخليج ذهب لشراء حاجة من دكان لاحد الهنود في لندن وحدث خلاف بسيط، التفت الأخ الخليجي إلى صاحب الدكان ليقول له «انت هندي»! ولا يعلم اخونا الخليجي انه ضحية لثقافة خفية تعشش في بلادنا، وهي الثقافة التي تعتمد التفرقة على اساس العرق والمذهب. الثقافة التي وصلت في بعض الاحيان إلى التكفير والتحقير والاذلال. الثقافة التي جعلتنا من اكثر الامم تخلفا على المستوى الثقافي العالمي على رغم اننا نملك اسمى دين واسمى اخلاق، واسوتنا نبي الرحمة الذي كان شعار رسالته الأخلاقي «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وشعاره الاجتماعي «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى».

ولا أريد هنا ان القي بالذنب على المسئولين لأن الثقافة ليست بيدهم، وإنما هي بيدنا، عامة الناس، والتغيير الأفضل يبدأ من الأسفل ليصل الى الأعلى. والحقيقة ان الأمم يجب الا تخجل من مواجهة الممارسات الخاطئة، والتي تحولت الى ثقافات «عرفية» لان تركها يسبب بقاءها وتعزيزها ونموها غير الصحيح. وينبغي ألا يغفل عن ان تصحيح مثل هذا المسار لابد ان يعتمد على المبادئ السامية التي تظهرنا كما أراد الله لنا

إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"

العدد 144 - الإثنين 27 يناير 2003م الموافق 24 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً