انهيار الاتحاد السوفياتي نتج عنه الانهيار الشامل لنظام القطبية الثاني Bi-polaْ وسيطرة نظام القطب الواحد Uni-polar، حتى ان القوى الدولية السياسية الناعمة أو ما يسمى بـ Soft Power من الدول الصغرى، اختفت من الساحة السياسية الدولية، وأصبحت في كنف سياسة الولايات المتحدة الأميركية الدولية. اختلال التوازن في القوى Balance of Power جعل اللاعب الأميركي اللاعب الوحيد المؤثر على ساحة العلاقات الدولية والمؤسسات الدولية المتعددة الأطراف كالأمم المتحدة. إذا الواقع الجديد ربما يكون وراء إصرار الرئيس الأميركي جورج بوش على تخطي قوانين وأنظمة وقرارات الأمم المتحدة ورمي ما يقرب من 14 معاهدة دولية عرض الحائط. من أهم هذه المعاهدات: معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار، ومعاهدة كيوتو للتغير المناخي، ومعاهدة إنشاء محكمة الجزاءات الدولية في لاهاي.
لا شك أن اتخاذ أية خطوة أحادية لشن أي هجوم انفرادي على العراق، واحتلال أراضيه، وانتهاك سيادته الإقليمية، وتغيير نظام الحكم فيه، مخالف لنصوص ومصادر القانون الدولي وخصوصا الفقرة السادسة من ميثاق الأمم المتحدة. الأمم المتحدة تعتبر أية دولة تنتهك الفقرة السادسة من الميثاق توضع في خانة الدولة المعتدية، وينطبق عليها تطبيق مجلس الأمن للفقرة السابعة من الميثاق الخاصة باتخاذ إجراءات قسرية ضد الدولة المعتدية (عقوبات اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية) على عضو آخر من أعضاء الأمم المتحدة. فهل تستطيع الأمم المتحدة تطبيق الفقرة السابعة من الميثاق على إدارة بوش، كما فعلت مع العراق عندما غزا الأخير الكويت؟ سؤال نحاول الإجابة عنه في هذا التحليل السياسي والقانوني.
القانون الدولي
القانون الدولي أو ما يعرف بالقانون الدولي العرفي أو قانون العلاقات بين الدول، يعتبر من صلب مجموعة القوانين والنظم المطبقة بين الدول ذات السيادة والكيانات الأخرى. وأعطيت لهذه القوانين صفة الشرعية والشخصية الدولية، ليحترمها المجتمع الدولي كما قال جيرمي بنثم.
مصادر القانون الدولي كانت مثار جدل عقيم بين الدول الأعضاء، وخصوصا في مجال تفسير مصادر وقوة وحماية القانون الدولي، ولكن المجتمع الدولي يعترف بأن الاتفاقات والمعاهدات الدولية، وأنظمة القوانين العرفية، ومبادئ القانون العام المعترف بها في البلدان المتحضرة، وقرارات الأمم المتحدة من أهم مصادر القانون الدولي. ليس هذا فحسب، بل إن المادة 38 الخاصة بوضع محكمة العدل الدولية لم تتضمن قائمة مصادر القانون الدولي، على رغم أن هذه المادة جزء من القانون الأولي المكون لإجماع الدول المنظمة والمصدِّقة والمصوّتة على قرارات الأمم المتحدة، الصادرة عن الجمعية العامة، الخاصة باعتراف الدول بمصادر القانون الدولي القائم والمعمول به حاليا. مما تقدم يتضح أن أية خطوة من قبل إدارة بوش بشن هجوم على العراق من دون موافقة الأمم المتحدة ستعتبر خطوة ضد الشرعية الدولية المتمثلة في مصادر القانون الدولي. مصادر القانون الدولي هذه صدّقت وانضمت إليه حكومة الولايات المتحدة الأميركية.
معاهدة فيينا
معاهدة فيينا للعلاقات الدبلوماسية (1961) نظمت العلاقات الدولية بين الدول، بما في ذلك إقامة علاقات دبلوماسية متكاملة عن طريق التمثيل الدبلوماسي الرسمي، وهذا يتطلب اعتراف الدول الأعضاء بسيادة واستقلال الدول الأخرى التي تقيم أية دولة عضو علاقات دبلوماسية معها. والأمر بالطبع يختلف عن معاهدة فيينا للعلاقات القنصلية للعام 1963م التي تنظم إقامة علاقات قنصلية وتجارية بين الدول بدرجات أقل من الامتيازات والحماية.
الانضمام والتصديق على معاهدتي فيينا يتطلب اعتراف الدول بعضها ببعض حتى تستطيع إقامة علاقات دولية متكاملة، لهذا لا يجوز قانونا أن تقوم إدارة بوش بإعلان نيتها في تغيير النظام في العراق مادامت تعترف باستقلال العراق وحقه السيادي على أراضيه، وحق تقرير المصير لشعوبه من دون إكراه قسري. وطبقا لمعاهدتي فيينا فإن واجب الدول حماية مواطنيها من أي اعتداء خارج حدودها الإقليمية، ولم يحصل أن أخلّ العراق بالتزامه بهذه المادة في معاهدتي فيينا فيما يتعلق بالإساءة إلى المواطنين الأميركيين في العراق، وعلى العكس من ذلك فإن السلطات الأمنية في أميركا مازالت تسيء إلى كل مواطن مسلم أو عربي وتعاملهم معاملة غير إنسانية، حتى انها احتجزت بعض أبناء البلدان الإسلامية في قاعدة خارج حدود الولايات المتحدة بالقرب من كوبا تعرف بغوانتانامو، مخالفة بذلك معاهدتي فيينا للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية وفقرات ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ميثاق الأمم المتحدة
قراءة إدارة بوش لميثاق الأمم المتحدة (1945) وأهداف الأمم المتحدة تختلف تماما عن قراءة بقية بلدان العالم، على رغم أن الميثاق وضع المبادئ الأساسية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واحترام بنوده احتراما لكرامة الإنسان وحقوقه الأساسية التي لا تميز بين الرجل والمرأة أو اللون أو الجنس أو الدين، أو بين الدول سواء كانت كبيرة أو صغيرة مادامت تتمتع بحق التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والانضمام لمجلس الأمن عضوا غير دائم. إذا كان الهدف من إنشاء الأمم المتحدة هو تنمية العلاقات الودية بين الدول على أساس الاحترام المتبادل والمساواة في الحقوق، وحق الشعوب في تقرير المصير، فإن إدارة بوش أول المنتهكين لفقرات الميثاق، لأنها لا تؤمن بأن الشعوب التي تناضل من أجل حق تقرير المصير كالشعب الفلسطيني أو اللبناني على سبيل المثال تستحق ذلك الحق، بل إنها تعتبر حركات المقاومة غير متحضرة تتطلب من المجتمع الدولي ـ والأمم المتحدة بالتحديد ـ محاربتها والقضاء عليها. والغريب في الأمر أنها تطالب بفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية عليها حتى تمتنع من مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وهذه مخالفة غير منطقية لفقرات ميثاق الأمم المتحدة التي تطالب بحق الشعوب في تقرير المصير، وقرارات مجلس الوصاية الخاصة بتحرير البلدان الرازحة تحت الحكم الاستعماري البغيظ.
الميثاق لا يجيز احتلال أراضي الغير بالقوة العسكرية، ويطالب عوضا عن ذلك بتحقيق أكبر قدر ممكن من التعاون الدولي لتشجيع بلدان العالم على احترام حقوق الانسان وحق الشعوب العيش بحرية، وعدم التدخل في شئون الدول الأخرى. وإذا كان الهدف الأول للأمم المتحدة هو حماية السلام والأمن الدوليين وفقا للفقرة السادسة من الميثاق، الخاصة بحل النزاعات الدولية بالطرق السلمية عبر: التفاوض، التوسط، التحكيم، وتطبيق القرارات الدولية الأخرى، ماذا يحدث إذا فشل الحل السلمي؟ في هذه الحال سيتعرض الأمن الجماعي للدول الأعضاء في الأمم المتحدة للخطر، وبحسب الفقرة السابعة لميثاق الأمم المتحدة فإن أمن كل عضو في الأمم المتحدة يجب أن تضمنه الدول الأعضاء مجتمعة، وهذا يتطلب من ضمن أمور أخرى اتخاذ إجراءات قسرية رادعة ضد الدولة المعتدية. لهذا فإن صدقية الأمم المتحدة ستكون في المحك إذا ما اعتدت دولة كبرى على دولة صغرى، وخصوصا إذا كانت الدولة المعتدية على سيادة دولة أخرى هي الولايات المتحدة، العضو الدائم في مجلس الأمن والمتمتعة بحق النقض «الفيتو».
تاريخ الأمم المتحدة يشهد على كثير من المتناقضات في إصدار القرارات الدولية، والأخذ بالمعايير المزدوجة عند تطبيقها. وفوق هذا فإن الولايات المتحدة اتخذت الأمم المتحدة جسرا لشن الهجوم على أفغانستان والعراق والصومال وفيتنام وكوريا وبنما وجرينادا وغيرها من البلدان الضعيفة. بل إن الولايات المتحدة ـ كما يقال ـ ارتكبت مجازر في حق الإنسانية من دريزن في ألمانيا إلى أفغانستان وصلت إلى 60 مليون قتيل، فهل طبقت عليها المادة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة؟ طبعا لا.
السؤال الآن: متي يأتي ذلك اليوم؟ وحتى يأتي ذلك اليوم، فإن القانون الدولي سيظل حبرا على ورق، وما أكثر أوراق الأمم المتحدة! وسيظل القوي صاحب الحق Might is Right وسيظل الضعيف المغلوب على أمره حتى تجري متغيرات درامية على شكل العالم السياسي
العدد 144 - الإثنين 27 يناير 2003م الموافق 24 ذي القعدة 1423هـ