لعلنا نستطيع أن نأخذ ونعطي بحذر، وبقدر يسير جداً في حدود ما استطاعت قدراتنا الفكرية استيعابه واستخلاص معانيه المستعصية والممتنعة على المفاهيم البدائية لأنها ليست من مهمات المبتدئين في العلوم الفلسفية، بل إنها مهمة الفيلسوف الحقيقي المتمكن، وهي «فهم ما هو واقع».
والحال «ما هو واقع» بالنسبة إلى هيغل...
«وهو يلح غالبا على واقع أن الصورة الأولى التي تطرح نفسها على مراتب التاريخ، وهي صورة التنوع والتبدل: صورة هائلة من الاشتباكات، كما قال هيغل، ويسعى الفيلسوف تحتها وفيها إلى الكشف عن هدوء وصفاء القوانين والمبادئ والعقل: لدينا أمام العين لوحة هائلة من أحداث وأنشطة، من أنواع متباينة إلى مالا نهاية من شعوب ودول وأفراد تتوالى بلا كلل». (راجع كتاب «هيغل والفلسفة الهيغلية» لـ «جاك دونت» ترجمة - «د. حسين هنداوي» - «ص 104»).
ومع مواصلتنا والتوسع في موضوع هذه الدراسة المتعلقة بتطور الحضارات الإنسانية عبر مسيرة التاريخ، وبروز دول تنفرد بالقدرة، وهي غالبا ما تكون قدرة عسكرية مجردة تؤهلها للسيطرة ونفي الدول الضعيفة المتخلفة عن ركب التطور الحضاري...
ولتفسير ما تطرقنا إليه تفسيرا موضوعيا يتلاءم ويحاكي فعل التاريخ في سيرورته، نقف عند التحليل الآتي لهيغل: «إن أكداس الوقائع الموضوعية تدار في كل عصر من قبل (مستحكم مطلق) يمنحها وحدتها بإخضاعها، وهو الروح».
فلكل فترة تاريخية تتميز بتفوق شعب، يكون القائد لها. وهذا الشعب يحرز غلبة على الشعوب الأخرى على شتى الأصعدة وهكذا أمكن تمييز فترة يونانية مثلا، وأخرى رومانية، وقرن لويس الرابع عشر.
وهنا تقتضي الضرورة البحثية في حال استقصائها للحقيقة أن نتوقف ونركز الفكر مليا عند عبارة: وهذا الشعب يحرز غلبة على الشعوب الأخرى على (شتى الاصعدة)، ومطلب التركيز للفكر مليا عند العبارة السالفة الذكر هو للحيلولة دون أن تقفز أميركا على التعريف: «وهذا الشعب يحرز غلبة على الشعوب الأخرى» لنفسها... لأن أميركا وشعبها لم يحرزوا إلا كره العالم لكل ما هو أميركي، وفي ظل هذا الكره أوقعت الحكومة الأميركية شعبها في نظر الشعوب الأخرى في مربع الكراهية، وهذا الأمر يعتبر النتيجة الحتمية للتفوق الأميركي على الصعيد الوحيد وهو الصعيد العسكري الحيواني الغابي البربري المرتبط بسفك الدماء، ففي الماضي مارسته مع الهنود الحمر (60 مليوناً) ممن أفنتهم و(100 مليون) من الإفريقيين، وفي الحاضر تمارس المهمة التي حققت فيها أعظم الخيبات على الصعيد العسكري في لبنان وفلسطين من خلال تسليطها «إسرائيل» الصهيونية فيما هي تواصل بربريتها في أفغانستان والعراق.
ومع استقصائنا لرؤى هيغل الفلسفية بشأن التاريخ، نراه يكمل عبارته: «بتفوق شعب يكون القائد لها. وهذا الشعب يحرز غلبة على الشعوب الأخرى على شتى الأصعدة...».
والحال أن ما هو في أصل كل أعمال وكل إنجازات هذا الشعب هو روحه، روح الشعب أو روح الأمة، فليس المؤرخون والفلاسفة هم الذين يصنعون بغتة الفكرة عن عصرها بفضل تحليل الواقع الملموس كما يعتقد الواقعيون والماديون بالعكس، إن روح الأمة بوصفها حقيقة جوهرية هي التي تنجب في المطاف الأخير كل المؤسسات وتلهم كل الأعمال التي تعكس بحد ذلك العصر؟!
وفي حالنا العربي، وبمقارنته مع سالف التحليل الهيغلي، تنتفي روح الأمة التي تنجب في المطاف الأخير كل المؤسسات وتلهم كل الأعمال التي تعكس مجد ذلك العصر. وتبقى الأمة العربية في سيرورة التاريخ، وفي مصادرة السلطات للحرية الفكرية وهي أساس تطور الشعوب تحت مختلف الأكاذيب والتضليل والتبريرات التي تدرك السلطات أن لا صحة لها، ولكنها ليست إلا إفرازات العنجهية القبلية البليدة النابعة من النظرة القومية الشوفينية... إذ إن الأرواح القومية تتناقض وتتقاتل، إنما كلحظات سيرورة موحدة ودينميك تغلق تنوعيتها، وهي سيرورة الروح العالمي... ويضيف هيغل... فبعد تطورها وتحققها تواجه كل روح قومية المصير نفسه الذي تواجهه أية فردانية أخرى، الزوال.
كما هو الحال الذي واجهته القومية النازية الهتلرية، وما ينتظر القومية اليهودية الصهيونية، ولا نستثني أميركا من المصير المنتظر ذاته... بشأن ما سلف راجع المصدر نفسه (ص 106 - 107).
وبعد كل ذاك يبقى السؤال قائماً، ينتظر التفسير، كيف تتم هذه العمليات وكيف تحدث التحولات؟ يجيبنا هيغل بما يأتي: «إن هذا التكون ليس مجرد إعادة للصورة التي سيمنحها الروح العالمي لذاته في ذاته، بل عملية فعلية وخلق، إذ ينهمك الروح من جديد في تناول كل نتاجاته السابقة باذلا الجهد في اعدادها».
لعلنا نرى أنفسنا من خلال ذلك التفسير أننا نقترب بوعي أو من دون وعي مما يسمى في ظل التطور الديالكتيكي بـ «التراكم الكمي انطلاقا من الرؤية الهيغلية في تفسيره لموضوع التراكم الكمي على اعتبار: ان روح الأمة، بوصفها حقيقة جوهرية، هي التي تنجب في المطاف الأخير كل المؤسسات وتلهم كل الأعمال التي تعكس مجد ذاك العصر».
وهكذا يكون هيغل قد أدخلنا في دهاليز الفلسفة التاريخية وما تحمله من تناقضات هي في حقيقتها ليست الا تناقضات ظاهرية لا يشغل هيغل نفسه بها بقدر ما يشغل نفسه بالأخذ والتركيز على لا تجانسية التعاقبات التاريخية، ليوصلنا إلى «أن المبدأ الكوني الذي يؤدي (بعد تزاحم التراكات الكمية) إلى ظهور وتعدد الانقلابات المتميزة وهو ما يفهم منه التحول بعد تشبع التراكمات الكمية إلى التحولات النوعية».
إن هذه الحال التطورية في بناء الشعوب منتفية في عالمنا العربي، بسبب خوف السلطات من أن تنفصل عنها الشعوب في ظل تطوراتها عبر مسيرة التاريخ، وتبتعد عنها تاركة إياها في عزلتها عن شعوبها في واقع التفاوت الفكري والتخلف الحضاري والعلمي والتكنولوجي، فالحكومات العربية لكي تتقي ما تعتبره ظاهرة شر ترعبها فيما هي في الحقيقة ظاهرة خير من شأنها أن تخلق لها العزة والمنعة والرفعة، تلجأ إلى حظر حريه الفكر وتقيد انطلاقة العقل الذي هو أساس كل تقدم وتطور في سيرورة النظام الكوني وتعاقب المراحل التاريخية التي تعزز التطور
إقرأ أيضا لـ "محمد جابر الصباح"العدد 1435 - الخميس 10 أغسطس 2006م الموافق 15 رجب 1427هـ