دخل الإضراب، الذي دعا إليه أبرز اتحاد للعاملين وجمعيات أرباب العمل، شهره الثاني من دون ظهور بوادر على قرب انفراج الأزمة، فالرئيس متمسك بإتمام فترة رئاسته، والمعارضة مصرة على رحيله أو إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، بينما الأوضاع في البلاد تتجه إلى حدود الأزمة.
ظهرت بوادر الأزمة في الوضعين الداخلي والعالمي، فقد تجلت داخليا في نقص حاد في إمدادات الوقود، نتيجة لإضراب عمال قطاع النفط، وتلاشي الإمدادات الغذائية بسبب توقف عمليات نقل السلع، وفي تآكل عائدات البلاد من النقد الأجنبي إذ بدأت الدولة تخسر ملايين الدولارات يوميا ـ تصدر 2,49 مليون برميل يوميا ـ وهذا اضطرها إلى سحب مليار دولار من الاحتياط النقدي البالغ 15 مليار دولار، لتغطية العجز في الموارد المالية الناتج عن توقف تصدير النفط ـ 50 في المئة من عائدات البلاد المالية ـ وانخفاض سعر العملة الوطنية (البوليفار) أمام الدولار، وهذا سيقود إلى تآكل القدرات الشرائية وكساد تجاري يؤدي إلى مزيد من عمليات الإفلاس بين الشركات التي ستضطر إلى تسريح العاملين، ما يعني ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل التي تقف الآن عند نسبة 17 في المئة من القوة العاملة.
كل هذا سيقود إلى حال التذمر بين المواطنين وهو ما تسعى المعارضة إلى حصوله.
وقد تجلت بوادر الأزمة عالميا في سوق النفط، إذ تحتل فنزويلا مرتبة خامس أكبر مصدّر للنفط في العالم، وحيث ارتفعت أسعار النفط إلى مستويات قياسية لم تصل إليها منذ أكثر من عامين، فقد بلغ سعر برميل النفط 33 دولارا في الولايات المتحدة كما اضطرت وهي التي تستورد 25 في المئة من احتياجاتها النفطية من فنزويلا، إلى سحب 9,1 ملايين برميل في الأسبوع من مخزونها الاستراتيجي الذي هبط إلى 278,3 مليون برميل، وهي أدنى نسبة يصل إليها منذ 26 عاما. والتي ستضطر إلى سحب المزيد لتغطية احتياجات المواطنين لوقود التدفئة بسبب البرد القارس، وتأخر وصول بديل من نفط منظمة أوبك التي وعدت برفع سقف إنتاجها بواقع 1,5 مليون برميل في اليوم، لأن الناقلات تحتاج لقطع المسافة إلى 6 أسابيع، بينما تحتاج لقطع المسافة من فنزويلا إلى 5 أيام فقط.
وسيؤدي استمرار انقطاع النفط الفنزويلي، واحتمال عدوان أميركي على العراق، إلى نقص كبير في إمدادات النفط في السوق العالمية وإلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير.
نشأت المجابهة الراهنة من تفاعل عناصر سياسية اجتماعية اقتصادية وأثنية. وهذا جعلها شديدة التعقيد صعبة الحل. فالسكان في فنزويلا منقسمون إلى «المانتوانو» وهم أقلية بيضاء من أصول أوروبية، بالمولد والنشأة، و«الباردو» وهم أكثرية سمراء من أصول هندية/ إفريقية. الأولى، تسيطر على الاقتصاد وعلى المؤسسات السياسية التي تدعم سيطرتها الاقتصادية وتقف وراء الحزب الديمقراطي الاجتماعي والحزب الديمقراطي المسيحي. بينما الثانية، فقيرة مهمشة (من 70 إلى 80 في المئة من السكان تحت خط الفقر). وأتاحت فترة الحكم الديمقراطي التي عاشتها البلاد للباردو إدراك المظالم التي يعيشون تحت وطأتها من جهة ولعناصر القوة التي يمتلكونها من جهة ثانية. لذلك طالبوا النظام الذي أقامه الرئيس هوغو تشافيز بإحداث تحولات سياسية قبل التقدم الاجتماعي والاقتصادي لاقتناعهم بأن عملية التطهير السياسي هي الطريقة المثلى لوقف الركود الاقتصادي الطويل واستعادة النمو وخلق فرص عمل جديدة والتغلب على المشكلات الاجتماعية المتفاقمة. المانتوانو، من جهتهم، لم يرضخوا لإجراءات الرئيس التي جرّدتهم من سيطرتهم على الكونغرس والمحكمة الدستورية العليا، وتحركوا لاستعادة سيطرتهم.
لم يقتصر الاشتباك بين الرئيس ورجال الأعمال من المانتوانو فقط لأن الرئيس استفز بإعادة تشكيل نظام التعليم الكنيسة الكاثوليكية التي تسيطر عليه تقليديا، والمؤسسة العسكرية التي استاءت من استخدام رجالها في تنفيذ خدمات اجتماعية ضمن خطة الرئيس (بوليفار 2000) من جهة واستخدامه الترقيات العسكرية لتدعيم مواقفه بأنصاره (تفضيل الولاء على الخبرة) والتي رأت فيها المؤسسة العسكرية إضرارا بسمعتها من جهة ثانية. بالإضافة إلى استفزاز الولايات المتحدة باعتماده الشفافية في مجال النفط وانفتاحه على دول تعتبرها واشنطن مارقة مثل إيران، العراق، كوريا الشمالية، ليبيا (زارها جميعا) وعقده صفقات تجارية مع الصين والهند وأندونيسيا وماليزيا وروسيا. لقد اعتبرته عدوا وخصوصا عندما أدان عدوانها على أفغانستان وظهر على شاشة التلفزيون وهو يحمل صور ضحايا القصف الأميركي عليها.
لذلك تحرك هذا التحالف الموضوعي ضد الرئيس وسياسته التي حمّلوها مسئولية «تخريب الاقتصاد وتقسيم البلاد». ونجحوا في الإطاحة به في انقلاب إبريل/ نيسان 2002 وعينوا في الرئاسة «بدوروكارمونا استنغا»، من الأقلية البيضاء الثرية، الذي فشل في الإمساك بالأوضاع نتيجة معارضة الأكثرية السمراء من جهة ونتيجة قرارات استبدادية اتخذها ضد البرلمان المنتخب (حل البرلمان) وضد الضباط الذين أوصلوه إلى الرئاسة، ما اضطره إلى الاستقالة بعد 3 أيام.
أوقع فشل الانقلاب الولايات المتحدة في حرج وهي التي رحبت به واعتبرته انتصارا للديمقراطية، بعد انكشاف دورها في ترتيبه عبر قيام ضابطين أميركيين بالتنسيق بين ضباط الانقلاب ورجال الأعمال ـ ظهر ذلك في التحقيق الذي أجراه الكونغرس الأميركي ـ لأنها شاركت في انقلاب ضد رئيس منتخب شرعيا.
لم ينه الانقلاب وفشله المجابهة التي أخذت شكل تظاهرات وإضرابات، وتظاهرات مضادة حتى دخلت في طريق مسدود نتيجة إصرار الطرفين على الاستمرار حتى تحقيق الأهداف من جهة، ومن جهة ثانية نتيجة لتواضع نتائج سلبيات الرئيس في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها البلاد، وهذا شوّش أنصاره وخلط أوراق وأطراف اللعبة إذ وقف بعض الفقراء مع رحيله
العدد 143 - الأحد 26 يناير 2003م الموافق 23 ذي القعدة 1423هـ