الواقف أمامها يشاهد آثار سنين العذاب في ملامحها، ويلمح الناظر إليها عوامل تعرية الفقر، ومشاهد البؤس على طبقات وجهها وتقسيماته. إرهاق شظف العيش السالك طريقه فوق جبينها، ووجهها المتعب من البحث عن العيش الكريم لها ولعيالها؛ إذ هي أقسمت على الاحتفاظ بكرامتها وشرفها في زمن لا رزق فيه للشرفاء إلا بشق الأنفس!
معاناتها كبيرة، وعملها خطير؛ إذ تتقلب بين البيوت طلباً للرزق الشريف في عملها كشغالة، تلاقي مختلف صنوف العذاب اليومي، معاناتها كبيرة في مجتمع شرقي لا يرحم، أنياب الذئاب تتطلع إلى نهش جسدها المتهالك، ونظرات اللئام تخترق قلبها المكسور... وهكذا هي معاناة الشغالة (أم محمد)، التي لم تتعد الثلاثين من عمرها وملامح وجهها وهيئتها قاربت الستين. أم محمد شاهد من شهود الإدانة على المجتمع الذي تعيش فيه، وإثبات على أن رفاهية وترف البعض لابد وأن يوازيه فقر وحاجة لدى البعض الآخر.
وقفت أمامي في استرحام منتصبة القامة كأنها أرادت أن تقول: إنني أبحث عن رزق بالحلال فقط! ما كدت أدخلها الشقة حتى أمطرتها بتعليمات شفهية وقائمة شروط العمل داخل الشقة، وافقت على الشروط على رغم صعوبتها وقسوة بنودها.
تجاذبت معها أطراف الحديث، وإذا بها لا تعرف القراءة أو الكتابة، ولكنها أمينة وحافظة لجميع دروس الطاعة والإذعان لـ «سي السيد» على رغم جفائه وهجره لها ولعيالها، وتسكعه المتكرر في الحانات الليلية.
أم محمد مثال حي على كائن بشري نبيل، وراق في أخلاقه على رغم مرارة العيش، والكفاح الدائم في البحث عن القليل الذي يقيها ذل الحاجة والسؤال. فقرها المدقع، و«شحططتها» المستمرة بحثاً عن الأجر الزهيد الذي يسد رمقها وعيالها، ومعاناتها مع زوجها كل هذه المعاناة؛ إلا أنها ظلت مؤمنة بمبادئها زاهدة في طريق الحرام، مهما نازلتها عيون الذئاب، ولمزتها ألسنة الحيات ولدغات العقارب.
خاطبتني: محمد باشا، فقلت لها: «بلاش» باشا، لأن كلمة باشا هي أولى درجات سلم الاستعلاء عند المتلقي، وأول درجات العبودية عند المرسل. ومع مرور الوقت وتجاذبنا لأطراف الحديث حن قلبي عليها، وعطف قلبها علي، ولكل منا مآربه في هذا الانكسار!
انكسارها كان لغربتي، وانكساري كان لمعاناتها اليومية، نحن الاثنين مشتركان في المعاناة، ولكن معاناتي مؤقتة وطوعية، أما معاناتها جبرية، ليس لها خيار فيها... والله وحده العالم متى نهايتها!
بسؤالها العفوي الدائم عني، أوقعتني في حيرة من أمري أمام الأصدقاء والمعارف، وكلما رن جرس هاتفي النقال بدأ الرفاق، كعادة الرجل الشرقي، يترجمون سؤالها المتكرر عني بأنه نوع من العلاقة المحرمة... معاذ الله من ذلك!
العلاقات الإنسانية لها معان مختلفة بين البشر، وترمز إلى أمور محددة وقاطعة بالنسبة إلى المجتمع الشرقي، وفي الحقيقة تلك نظرة قاصرة، فعلاقة الرجل مع المرأة يجب أن تسمو على ظنون البعض، و«الزبدة» في النيات الحسنة وليس المسبقات الذهنية وسوء الطوية. وقديماً قيل: «النية مطية»، ومهما تعدت مشاعر الإنسان حدوداً معينة، إذ الإنسان كائن ذو مشاعر وأحاسيس، وعلى رغم الاقتدار على ضبط المشاعر والأحاسيس في أحيان قليلة؛ فإن الانكسار يكون في غالب الأحيان!
الإحساس والعواطف لا علاقة لهما بالأشياء المادية، التي تحكمها التصرفات والمعادلات الرياضية! فهل يأتي يوم يفهم فيه أصدقائي ومعارفي، في مجتمعنا الشرقي، مؤدى العلاقات الإنسانية النبيلة؟
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 1424 - الأحد 30 يوليو 2006م الموافق 04 رجب 1427هـ