غداة احتلال هتلر باريس إبان الحرب العالمية الثانية، وقف مدرس اللغة الفرنسية في مقاطعة الألزاس أمام طلابه قائلا بصوت يشوبه البكاء: «يا أطفالي هذا هو آخر درس أعطيه لكم، فقد جاء الأمر من باريس أن لا يدرس سوى الألمانية في مدارس الألزاس واللورين، سيأتي المدرس الجديد غداً، وهذا هو درسكم الأخير في اللغة الفرنسية»، عندئذ وقف أحد الطلاب صارخا: «هذا ما أعلنوه على لوحة الأنباء في دار البلدية، ولكن هل سيرغمون الحمام على التغريد بالألمانية». أما مدرس التاريخ فقد لبس نظارته وأمسك بكتابه وبدأ حديثه بصوت مضطرب قائلا: «تلك ذكرى الدرس الأخير»، ثم تحامل على نفسه وكتب على اللوحة بخط كبير (Vive La France) «لتحيا فرنسا»، بعدها أشار لطلابه بالانصراف، فقد انتهى الدرس. فهل استوعب العرب الدرس جيدا؟

فبعد الإعلان عن تمكن المقاومة الإسلامية في لبنان من أسر جنديين إسرائيليين وما تبعه من ردود فعل قاسية من جانب قوات العدو الإسرائيلي، الذي لا ينأى بنفسه عن التعدي على البشر والحجر على حد سواء، بدأ الصوت العربي النشاز يعلو بالحديث عن المغامرة، ويتساءل هل كتب على دولة لبنان بأن تكون آخر من يعلم وأول من يطالب؟

كانت المقاومة الإسلامية في لبنان جزءا من نشاط ما كان يطلق عليه «جبهة المقاومة اللبنانية»، وهو تنظيم عسكري انشئ لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي الذي اجتاح جنوب لبنان ووصل إلى العاصمة (بيروت) في العام 1982. ومع انسحاب الجيش الإسرائيلي من بيروت واستقراره في الجنوب، أصبحت المقاومة الإسلامية وإلى يومنا الحالي هي الأكثر فاعلية ومقاومة للعدو الإسرائيلي. وتعتبر المقاومة الإسلامية في لبنان الجناح العسكري لحزب الله، ذلك الحزب الذي يؤرخ له بالعام 1982، وهو حزب سياسي قائم على المسلمين الشيعة من أهل لبنان، ويعتمد بشكل مباشر على أيدولوجية دينية لها من الخصوصية المذهبية ما يميزه عن غيره، إذ أشار إليه البيان الصادر عن الحزب في 16 فبراير/ شباط 1985 إلى أن الحزب «ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه». هذا التوجه الطائفي ربط الحزب بإيران بشكل كبير، وعلى رغم هذا الارتباط الأيدولوجي الوثيق، نجح الحزب في الفصل بين الانتماء الديني والسياسة والمواطنة، إذ ركز على الجهاد ضد العدو من منطلق ديني وطني، وتمكن من تحقيق بعض من الانتصارات التي ساهمت في رفع شعبيته على المستوى اللبناني والعربي والإسلامي، إذ نجحت قواته بنسف مقر القوات الأميركية والفرنسية في أكتوبر/ تشرين الأول العام 1983، وقتل في هذه العملية ما يربو على 300 جندي أميركي وفرنسي، كما فقدت «إسرائيل» في العام 1988 وحده 36 جندياً، وتعتبر معركة «أنصارية» العام 1997، من أشهر عمليات الحزب وأنجحها، إذ استطاع استدراج طائرة مروحية على متنها ستة عشر مقاتلا من القوات الإسرائيلية الخاصة وأبادهم عن آخرهم.

هذه العمليات أفرزت ضغوطا كبيرة داخل المجتمع الإسرائيلي الذي طالب الحكومة بالانسحاب من المستنقع اللبناني، ومع تعزز هذا التيار الداخلي من جانب وبسالة المقاومة من جانب آخر، خرجت القوات الإسرائيلية من معظم أراضي البقاع الجنوبي مسجلة بذلك نصرا لا يقهر لحزب الله، مبددة أسطورة الجيش الذي لا يقهر. وتوج حزب الله نصره بصفقة تبادل الأسرى مع العدو في يناير/ كانون الثاني 2004، عندئذ قال الأمين العام لـلحزب السيد حسن نصر الله في احتفال ناهز حضوره عشرة آلاف شخص: «ان هذا الانتصار ينتسب إلى أمتنا وثقافتنا وديننا، نحن أمة تؤمن بالإنسان وكرامة الإنسان، والإنسان عندنا له حرمة وهو حي وهو ميت، نحن لن ننسى ولا نتجاهل إخواننا في السجون... وسيأتون - يعني جنود المقاومة - في المرحلة المقبلة بأسرى إسرائيليين أحياء، ونحن مستعدون للتضحية».

هذا الوعد تحقق في صيف 2006، وعرفت العملية بالوعد الصادق، بعدها كان خطاب نصر الله هادئا لا يريد التصعيد ولا مزيدا من التوتر في المنطقة، وأقصى ما يتمناه عملية تفاوض غير مباشرة بشأن الأسرى. «إسرائيل» ومن دون تردد أرادتها فرصة لإضعاف حزب الله في الداخل، فسارعت بالانقضاض على الحزب بضرب المدنيين العزل مراهنة على فك اللحمة اللبنانية والإسراع بها في تبني مشروع فك سلاح حزب الله.

الحزم والجزم الإسرائيلي جاءا وفقا لآليات دولية رأت ان الساعة حانت لإنهاء ما يسمى بالمقاومة، الموقف الدولي أمر غير مستبعد ولا مستغرب ولا يراهن عليه أحد، لكن الأمر المحير أن يتهم من يتبنى المقاومة بالمغامرة، بالأمس كان الموقف العربي الرسمي لا يخرج عن إطار ما قاله قوم موسى (ع) كما تشير الآية الكريمة: «فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون» (المائدة: 24)، أما اليوم فقد خرج هذا الموقف العربي عن تقاعسه ليتهم المجاهدين بالمغامرة. ليته ما فعل، بل زاد من الطين بلة عندما خرج علينا البعض بتشبيه ما أقدم عليه السيدحسن نصرالله بما فعله هتلر. أدولف هتلر الذي حكم ألمانيا حكما استبداديا، وأشعل نار الحرب العالمية الثانية، وأشاع الرعب بشكل لم يفعله أحد في التاريخ، هذا الحديث رد عليه الأمين العام لحزب الله بشيء من المصارحة والمكاشفة غير المسبوقة، والتي تمثل نوعا من التحدي والرهان على تحمل المسئولية في تبني الصراع العربي الإسرائيلي بالكيفية التي يراها، إذ قال: «راهنوا على عقلكم وسنراهن على مغامراتنا، والله ناصرنا وهو معيننا، ولم نراهن في يوم من الأيام عليكم».

لكن الأمر الأهم في خطاب السيد هو تخطيه للحكومات العربية والإسلامية، وتركيزه على الشعوب بقوله: «أنتم الشعوب العربية والإسلامية معنيون بأن تتخذوا موقفا من أجل آخرتكم إن كنتم تؤمنون بالآخرة، ومن أجل دنياكم ومصيركم وكرامتكم ومستقبلكم ومستقبل أولادكم». فالمطالبة باتخاذ موقف أكبر من تكون مناصرة أو مناشدة أو مظاهرة هنا وهناك، انه المطالبة بالتغيير بدءا بالنفس وبالآخرة وبالمنهج في الحياة.

ولكن هل سبب السيد نصرالله إحراجا لقادة العرب التي أصابها العجز غير المسبوق والذي دفعها لإعلان موت عملية السلام بعد لأن كانت تتبناها بقوة وتراهن عليها؟ الوضع الآن هو بمثابة رسائل مختلفة الاتجاهات تنذر بحالة ليس لها سبق تاريخي في مسيرة الشرق الأوسط، تؤذن بمرحلة جديدة لا يعرف ملامحها أحد، ولم يتصور أبجدياتها بعد، لكنه بات من المؤكد أن يكون نصرالله أحد وجوهها، فهو القائد الصادق والأكثر شرعية، انه الرهان الذي سيغير من وجه الشرق الأوسط