خدعونا وضحكوا علينا، فماتت عملية السلام... هكذا باختصار شديد وتعبير مرير لخص الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى الموقف المأسوي الذي نعيشه ونكابد أحزانه وهو قول يدمي من شدة صراحته وقسوته معاً، خلط ما بين التراجيديا المبكية، والكوميديا المضحكة، في بلاغة صارخة. وحين سئل: وماذا نفعل بعد أن خدعونا وضحكوا علينا، أجاب: سنأخذ كل أوراق القضية ونذهب بها إلى مجلس الأمن وعلى رغم إدراكنا أن مجلس الأمن ربما كان هو المجال الوحيد المفتوح أمام العرب الآن، ليتحدثوا فيه بلسان فصيح، ويوجهوا من خلال منبره كل الهجوم اللفظي على «إسرائيل» والنقد اللاذع للسياسات الأميركية، فإن ذهابنا إلى مجلس الأمن كما قال عمرو موسى هو الموقف المضحك حقاً!
فلطالما ذهبنا من قبل إلى مجلس الأمن وهناك ضحكوا علينا وخدعونا، فهل سنذهب هذه المرة من جديد، ليضحكوا علينا ويخدعونا بأفكار وأساليب جديدة أنتجتها العولمة وأتقنتها الغطرسة... أم ماذا!
في الحقيقة إنني أدرك جيداً وأتفهم الحال النفسية التي كان عليها عمرو موسى وهو يقول ما قال، فقد كان خارجاً لتوه من اجتماع عاصف لمجلس وزراء الخارجية العرب، وجرى فيه النقاش متقاطعاً بل ومتعارضاً، بشأن العدوان الصهيوني الإجرامي على لبنان وفلسطين، بدرجة فاقت الفظاعة النازية ويبدو كما تقول المعلومات المتداولة أن الوزراء الذين اجتمعوا لاتخاذ قرار في مواجهة هذا العدوان، انقسموا إلى جبهتين، وقيل ثلاث، فضاعت معالم السبل كما هي العادة، وخرجوا ببيان معهود لا يقي لبنان هول الكارثة، ولا يساعد فلسطين في الصمود!
لا أدري هل اكتشف الوزراء العرب ومن خلفهم حكوماتهم وحكامهم الآن فقط «أنهم خدعونا وضحكوا علينا». ومن ذا الذي خدعنا وضحك علينا، فقررنا الذهاب إلى مجلس الأمن لنشكوه ونفضحه ونجرمه أمام العالم! وهل ذهابنا إلى مجلس الأمن سيوقف الضحك علينا وخداعنا، ثم ما هو رد فعلنا على كل ما جرى وما يجري!
وحين نعود إلى الواقع فإننا يجب أن نعترف أنهم يضحكون علينا ويخدعوننا منذ نحو 60 عاماً. أي منذ اشتعل الصراع العربي الإسرائيلي واحتلال فلسطين وإعلان قيام «إسرائيل» العام 1948، فإذا كانت الحكومات العربية، لم تكتشف طوال هذه الفترة انهم يضحكون عليها فهي غلطتها وليست غلطتهم، وإذا كانت لم تكتشف أن ذهابها في كل مرة إلى مجلس الأمن ينتهي الأمر بخداعها بقرار معسول، أو بفيتو أميركي صارخ يدق أدمغتنا مرة بعد مرة من دون أن نفهم أو نستوعب فهي مصيبتنا وليست مصيبتهم. ولعلني لا استهول القول الآن، إن رجل الشارع العادي ظل يرفع صوته صارخاً منذ أزمان، وهو يقول إنهم يخدعوننا بحلو الكلام عن السلام ويضحكون على ذقوننا بالتحالف والصداقة بينما سياستهم وترسانتهم العسكرية جميعاً تحمي «إسرائيل» وتصوت أمنها وتضمن تفوقها. وبينما كان رجل الشارع يفعل ذلك ويصرخ كانت حكوماتنا الرشيدة تدق رأسه بالهراوات وتقمعه وتقهره، حتى لا يكرر «هذا القول المنكر». ثم تمضي في طريقها تستعذب الضحك عليها وخداعها مرة بعد مرة، وحرباً بعد حرب وسنة بعد سنة.
وها انا ازعم اننا اكثر شعوب الأرض وبلادها وقوعاً في الافخاخ المنصوبة بدقة أو بعفوية من دون أن نعي أو نستوعب فنتوقف ونعيد النظر ونتعظ، فمنذ أن صدر قرار تقسيم فلسطين 181 لسنة 1947 والقرارات الدولية تتوالى حاملة في الغالب، المعاني نفسها والألفاظ نفسها، عن حماية «الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف». وعن إقامة دولة فلسطين على الأرض التي فرضها قرارت تقسيم، وبشأن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، لكنها قرارا ظلت بلا معنى، لانها افتقدت آليات التنفيذ مثلما افتقدت الإرادة القادرة سواء الإرادة الدولية أو تلك العربية.
ومقابل ذلك، ظلت الولايات المتحدة تستخدم حق النقض (الفيتو) في كل مرة يعرض موقف أو أزمة أو قرار يدين «إسرائيل» حتى لو ارتكبت أبشع انواع العدوان والعنصرية النازية، وحافظت الولايات المتحدة على سجلها الطويل، باعتبارها أكثر الدول الخمس أعضاء مجلس الأمن الدائمين استخداماً للفيتو لحماية «إسرائيل» من دون اعتبار لكل هذا «الكم» العربي بملايينه الذين يحرسون بأمانة وتفان مصالحها الحيوية والاستراتيجية في المنطقة. فهم في النهاية يخضعون لنظم حكم حليفة «وعلى رأسها بطحة»، وهي نظم دائماً في حاجة ماسة لحماية الحليف الأميركي قبل وبعد أحاديثهم الزائفة في الغرف المغلقة عن تحرير فلسطين واستعادة القدس!
الآن، والآن فقط، اكتشف مسئولونا أن الأميركان والأوروبيين خدعونا وضحكوا علينا، على رغم أن شعوبنا تقولها منذ نصف قرن دون أن يسمعها أحد كالعادة وها نحن نعاود الذهاب لمجلس الأمن لكي يضحكوا علينا من جديد، ولكي نتلذذ بمزيد من الخداع والضحك على ذقوننا الحليقة والمرسلة على السواء! وبتلخيص شديد أدعي انهم ضحكوا علينا مرات في موضوعين خطيرين: قضية التسوية الشاملة للصراع العربي الإسرائيلي، وقضية الإصلاح الديمقراطي المأمول.
في الصراع العربي الإسرائيلي صدرت مئات القرارات الدولية المؤيدة والموكدة لحق الشعب الفلسطيني في أرضه ودولته وعاصمته (القدس)، لكنها كما أسلفنا ظلت قرارات خداعية غير عملية وغير قابلة للتطبيق وفق ما أثبتته التجربة لأن الإرادة العليا الأميركية أرادت ذلك فدفعت «إسرائيل» إلى التوسع والعدوان والتهام الأرض شبراً بعد شبر، بينما دفعت «الحلفاء والأصدقاء العرب»، إلى الرضا والقبول والخضوع. وإذا كنا تحدثنا عن قرار التقسيم الصادر العام 1947 فإننا ننظر خلفنا وأمامنا لنرى ان لعبة الخداع والضحك على الذقون، تتحدث الآن عن وعد بوش بدولة فلسطينية يحددها مشروع أولمرت بأقل من 20 في المئة من فلسطين ويحوطها الجدار العنصري العازل ويقسمها إلى كانتونات لا تقوى على البقاء.
ولم يكن رد الفعل العربي الرسمي سوى الرضا والقبول بما هو متاح «تطبيقاً للواقعية والعقلانية» وسوى الخضوع المتوالي للتنازل وتقديم الهدايا والعطايا مرة بعد مرة، وأهمها مبادرات السلام، من معاهدة كامب ديفيد إلى معاهدة وادي عربة واتفاقات اوسلو، ومن خريطة الطريق واللجنة الرباعية إلى المبادرة العربية في قمة بيروت، إلى آخر هذا المسلسل الممل. والأمر ذاته، ينطبق على لبنان، الذي يتعرض لأفظع حملة تدميرية تحت الحماية الأميركية السافرة، بل التشجيع العلني بحجة القضاء على حزب الله المتهم بالإرهاب وبذريعة القضاء على «حماس» الفلسطينية بالحجة نفسها، بينما انقسم العرب إلى من يغطي العدوان الإسرائيلي والانحياز الأميركي ومن يرى أن حق المقاومة ضد المحتل والعدوان حق أصيل ومقدس، وفي كل الأحوال اكتشف الطرفان العربيان أنهم ضحكوا عليهم ومازالوا!
والأمر لا يختلف في موضوع الديمقراطية التي أجلها حكامنا طويلاً، بحجة التفرغ لمقاومة المحتل الصهيوني الغادر التي تعهد الأميركيون بإقامتها ونشرها في البلاد العربية، وفي الحالتين أيضاً اكتشف شعوبنا أنها «انضحك عليها»، مرتين مرة من أميركا ومرة أخرى من نظمنا الحاكمة، التي تريد ان تحكم للأبد بكل عيوبها وقصورها وعوراتها، التي استغلت الصراع العربي الإسرائيلي جنباً إلى جنب مع «الحرب الأميركية ضد الإرهاب»، لعرقلة أي تقدم وأي إصلاح فيه شبهة ديمقراطية في ظل حماية أميركية حتى وان أدعت عكس ذلك.
والحقيقة اننا في لحظة فارقة حرجة، فقد تحالفت الغطرسة الأميركية المخادعة مع العدوانية الإسرائيلية الفضة مع ظلم وقهر النظم العربية الحاكمة في الضحك علينا وخداعنا، في افقار الشعوب واهدار ثرواتها عبر الفساد البادي، وفي إنزال الهزيمة بكل التيارات الوطنية والديمقراطية وفي تعميق الإحباط القومي العام، وفي محاصرة كل ما يشير إلى المقاومة معنى ومبنى.
فكانت النتيجة هي ما نحن عليه الآن من تخلف وعجز وفقدان كرامة وإحساس بالظلم والاضطهاد وهو إحساس يولد طاقة متفجرة بالضرورة قد تتجه نحو إعادة البناء وقد تتجه للتدمير قد تفرز صحوة ديمقراطية إصلاحية حقيقية، وقد تخرج من باطن المخبوء تيارت متشددة ومنظمات متطرفة تقود الجميع نحو الصدام الدامي ضد الجميع، قد تردع الذين ضحكوا علينا وخدعونا، وقد تدفعهم إلى المزيد من الضحك والخداع، وساعتها لن يكون أمامنا حتى متسع من الوقت للذهاب بالقضية إلى مجلس الأمن.ولكي لا يظل هؤلاء وأولئك يضحكون علينا، ينبغي أن نهدم بأيدينا هذا البناء المتهاوي وأن نعيد بناءه بأيدينا أيضاً وليس بأيدي الذين خدعونا!
خير الكلام
رضا الله سعي لا يترك، ورضا الناس أمل لا يدرك.
أمين عام اتحاد الصحافيين العرب
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1419 - الثلثاء 25 يوليو 2006م الموافق 28 جمادى الآخرة 1427هـ