لم أدخل قط في دوامة الحيرة والتردد في إبداء رأي بالكتابة عن أي موضوع، كنت أستطيع الكتابة فيه، مثلما احترت وترددت في موضوع الحرب على لبنان، كما يصفها تلفزيون المستقبل، وأعرف غيري كثيرين ممن يعيشون الحال نفسه ويكابدون المأزق نفسه، وتختنق أنفاسهم بأسئلته الصعبة. ولكنني، محمول على متن قناعة أن الرأي العام يتشكل من مجموعة الآراء، يفترض أن يشيع ويتعمم أقواها حجة ومنطقية بفضل المستوى الثقافي الذي وصل إليه المجتمع، ورافعة الإعلام، الذي، للأسف، غالباً ما تسيطر عليها الحكومات، لذلك نرى الرأي العام، في الغالب الأعم، مرآة للنظام السياسي القائم والطبقة الاجتماعية السائدة فيه. كما انني أعول كثيراً، في هذا الصدد، على ما يمكن أن يشي به عنوان المساحة التي فيها أكتب - بالقلم الرصاص - وما يمكن أن يشفع لي اختياري له، إن أخطأت في رأي، فان إمكانية الرجوع عنه قائمة.
قد يسأل سائل، لماذا هذه المقدمة للدخول في موضوع الكتابة عن الحرب على لبنان؟ وجوابي، هو أن هناك بعضاً ممن يعتقد بصحة رأيه المطلقة، التي في غالبية الأحيان تكون منطلقة من ثنائية الحق والواجب بشكل جامد، من دون الرجوع إلى الروابط الموضوعية والعلاقة السببية بينهما، وعلى أساس من ذلك يحلو لهم توزيع صكوك الوطنية على بعض، ويحجبونها عن البعض الآخر، وان أنت أردت أن تكون ممن يحظون بهذه الصكوك، ما عليك إلا أن تحاكي عاطفة ذلك الوطني من نافذتيه الأوسع، القومية والدينية، ولا أن تخدش، بالرأي، كبرياء منطقه، أو بالحوار المباشر فتدنس قدسية مجلسه، إذ لا أقل من أنه يودي بك في خانة المتآمرين والخونة، هذا إذا لم يكن مالكا لسلطة الحكم عليك بالإعدام والتنفيذ الفوري. فمن السهل أن تنطلق من الرأي العام السائد، والذي هو يعبر، بصدق، عن ثوابت قومية لا مجال لدحضها. إذ أن القول بأن «إسرائيل» دولة مغتصبة وعنصرية، قائمة على التوسع، مغروزة لتقطيع أوصال الوطن العربي، وإذا ما أضفنا إليها بأنها تحتل مناطق من البلدان العربية مثل لبنان والجولان وفلسطين، فضلا عن مئات الأسرى التي تكتظ بها السجون الإسرائيلية، كل ذلك صحيح، وأي حرب تعلن ضد «إسرائيل»، بالنسبة للعرب هي عادلة، لكن هل كل ذلك كاف لأن تشن عليها حربا وتحقق فيها انتصارا؟
هذا، في اعتقادي، السؤال الصعب الذي واجهه حزب الله، الذي يقوده السيدحسن نصرالله وخرج بإجابة عملية تقول بضرورة الحرب لاسترداد الحق، ولا يمكن لأحد أن يجادل في قدسية الهدف وجلال المقصد. لكن، ألا ينبغي أن نسأل، وبغض النظر عن نتيجة هذه الحرب، هل أن الظروف الموضوعية كانت حاضرة عندما تم اتخاذ قرار على هذا القدر من الخطورة ضد عدو قوي مدعوم من أقوى دول العالم عسكريا، واقتصاديا، لاسترداد الحق بواجب الجهاد، أم أن صاحب القرار قد اكتفى بدعم معنوي، وهذا ما هو ظاهر في واقع الحال من تصريحات بعض الدول وتحديدا من سورية وإيران.
في اعتقادي، انه طالما أوار الحرب لم يزل مستعرا فان أي تنظير عن أسباب نشوبها هو ترف ينبغي إرجاء تناوله إلى ما بعد انقشاع دخانه، وذلك هو بالضبط ما اتفقت عليه القوى الوطنية اللبنانية منذ اللحظة التي بدأت فيها الحرب، وتم للسيدحسن نصرالله ما كان قد طلبه في أول حديث وجهه للداخل والخارج. انتصرت الدولة له بقضها وقضيضها، وحصل من الدعم ما يكفي من خصومه السياسيين، وقد أظهرت المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله بسالة وشجاعة كان ينقصها الدعم القومي الذي تبعثر الرأي بشأنه ما بين معارض للخطوة باعتبارها مغامرة ينبغي أن يحاسب من قاد إليها، وهذا ما قاله وزير خارجية قطر في اجتماع وزراء خارجية الدول العربية الذي عقد في القاهرة غداة اشتعال الحرب، وبين مؤيد أخذ يطلق تأييده خطبا ومظاهرات كانت ترفع من معنويات المقاومة، لكنها هل تفت من قوة الخصم وتحييد أهدافه لتكون عسكرية صرفة؟ هذا ما لم يحدث.
الشيء الذي يميز قرار الحرب الدائرة على الأرض اللبنانية بين «إسرائيل» والمقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله، أن لا دور للدولة اللبنانية فيها إلا فيما يتصل بتقديم المساعدات للمواطنين والتخفيف عليهم من آثار جحيم الحرب. عادة، أن الدولة هي التي تتخذ قرار الحرب والسلام، والأحزاب هي التي من يقوم بدعم الدولة وتكريس طاقات المجتمع وإمكاناته لخدمة الدولة في الحالتين، لا العكس. لكن من سيحاسب من بعد أن تنتهي الحرب بكل نتائجها الكارثية، انتصارا أو هزيمة؟ سؤال تسجله حال عربية جديدة وجديرة بالتأمل. أظن أن واقع ما بعد الحرب لن يمدنا بوقت كاف للتأمل في الحال التي ذكرت، إذ أن لبنان سيكون موعودا بتصفية حسابات، أرجو ألا تتطور لتغدو حربا أهلية أخرى، لأن حال الحرب الجارية تراكم أخطاء، وكل القوى السياسية تستجمع الأخطاء التي ترتكب لتكون مستمسكات، تدخرها ليوم الحساب!
من سينتصر في الحرب، «إسرائيل» أم حزب الله؟ سؤال سألني ابني ونحن في اليوم الثامن من الحرب، قلت له أولا، ليس حزب الله لوحده ولكن معه حلفاء يسمون مجتمعين المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله، ثانيا، إن «إسرائيل» قوة باطشة، وقوة تمسك بترسانة عسكرية متطورة ودعم لا يتوقف من أقوى دولة في العالم وجيش نظامي قوي، لن يكون أقوى من العرب مجتمعين، لكن متى سيجتمع العرب؟ أما المقاومة الإسلامية فقد أثبتت قدرات عسكرية عالية، ويكفيها شرفا أنها أسقطت هالة التفوق الاستثنائية التي زرعتها «إسرائيل» ذاتها في ذهنيتنا، واستطاعت أن تتبادل الذعر بذعر مع «إسرائيل»، في حين كان الذعر من نصيب الشعوب العربية على ما يزيد من نصف قرن. لم يقنع ابني بالإجابة إذ أنه يريد جوابا مباشرا: من سينتصر حزب الله أم «إسرائيل»؟ قلت إذا سلمت المقاومة الإسلامية الأسيرين فإنها بذلك تعلن انتصار «إسرائيل»
العدد 1415 - الجمعة 21 يوليو 2006م الموافق 24 جمادى الآخرة 1427هـ