ما كان للدمع أن يتفجر في مآقيّ، وتحتشد في صدري العبرات، في يوم السبت 8/7/2006، لو لم يقترن ذلك بنبأ موت غير عادي. انه فقد، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، أبى أحمد الذوادي أن يموت، وهو الذي كان ملتصقا بالموت، منذ العام 1994 بسبب المرض، ومنذ العام 1951 بسبب أفكاره المنحازة إلى التحرر والتقدم وما ترتب على ذلك من حبس ومنافٍ. ولم يكن يعبأ بالموت في سبيل تقدم الوطن وناسه بل إنه، أي الموت، ساير منهج أبي قيس في الحياة ولم يداهمه، تمكن المرض منه إنما لم يفقده اتزانه المنهجي، ولكنه استطاع أن يجعل الموت يقتفي نهجه التدرجي في الوصول إلى الفكرة!
نعم، أيها الرائع... إن التاريخ سيسجلك رمزاً وطنياً من الطراز التقدمي، أفنى كل عمره، بكل مستويات مراحله، من أجل حلم استقطب بحنكته السياسية وفكره المتقد، ومبادئه الوطنية التقدمية، ومعدنه اللامع ضمن معادن وطنية حقيقية أخرى، ما جعل منه أخاذاً وقادراً على استقطاب مجاميع غفيرة من المناضلين تردد معه عبارته الأشهر: «وطن حر وشعب سعيد».
فعلا... ما أروعها من عبارة صيغت بمهارة سياسي حاذق، واكتنزت بالمدلولات المطلبية الحالمة بالتغيير، وتكثف فيها عشق للبحرين لا يوازيه عشق لشيء آخر، بدا، في التو واللحظة، واضحا وجليا في ألوان البشر وطيفهم في مجلس عزائك المهيب، الذي كان من صميم نسجك، وعظيم انجازاتك. وما أروعها من صنيعة تلك التي استنها رفيقاك، عبدالجليل النعيمي وحسن مدن وغيرهما كثيرون من أعضاء المنبر التقدمي وقياداته، في تصدر مجلس العزاء إلى جانب ابنك قيس ومجاميع أهلك وأقربائك، تقبلا للتعازي برحيلك. فهذه لعمري وقفة وفاء جليلة يندر أن يضطلع بها آخرون في ديمقراطيات وليدة، ويقيني أن سبب ذلك هو مساحة الحرية المناسبة التي أتاحها المشروع الإصلاحي لجلالة الملك، الذي دفعت (أنت) بكل ذخيرتك المعرفية وخبرتك النضالية وحنكتك السياسية باتجاه دعمه من واقع مراس يعرف كيف يتعاطى مع المنجز ولا يكابر في تقدير نتائج الوقائع على الواقع.
أقول ذلك لأن جبهة التحرير، والآن وريثها المنبر الديمقراطي التقدمي، تختلف عن كثير من التنظيمات السياسية الأخرى باعتبارها فكراً ماركسياً مازال عموم الناس يقف على مسافة منها ويتردد في تقبلها أسوة بالتنظيمات الدينية والقومية الأخرى، وخصوصا نحن نرسف تحت وطأة فكر يلقي بظلامه على كل مناحي الحياة مستقلا الفضاء العام الذي يتيح الحرية لحركته تحت دعاوى الهوية والخصوصية التي غدت كوابح وروادع نفسية تواجه قطاعات لا يستهان بحجم تأثيرها في المجتمع.
مازلت أذكر البرهة الزمنية، وأظن أنها في العام 1973، والتي لا تزيد في تفاصيلها على ثلاث دقائق، تلك التي رأيت فيها سيف بن علي وهو يتأبط صحيفة، وساعتئذ لم أكن لأعرف أن هذا الاسم الذي عرفنا به اسما حركيا، عندما أتى مدفوعا برغبة تسقط أخبار الوطن، ولكنه لم يجدنا على نحو ما اعتقد لسبب بسيط وهو أننا مازلنا حديثي عهد بالشواغل الوطنية، فقد كنت للتو أتهجى الفكرة اليسارية، وكانت الماركسية بالنسبة لي شيئا من رطانة ألوك مفرداتها دونما وعي بحقيقة محمولاتها، وكأن معرفته بنا قديمة ليقول لنا «أهلا، الحمد لله على السلامة، اشلونكم واشلون البحرين»، وعى من إجابتي المبتسرة، «زين، كل شيء زين»، بأنني مازلت طري العود وأبعد من أن أكون حاملا لهم وطني، وانصرف تاركا لي سؤاله عن الوطن يفعل أفاعيله. تلك هي الكلمات التي سمعتها منه مباشرة في كل حياتي ولا غيرها، وتوارى بشخصه بعدها في عظيم انشغالاته الوطنية، التي حفر فيها اسمه كواحد من أبر أبنائها. وبقيت على اتصال وملاحقة لكل ما كان يكتبه. ولكن هل كان لي أن أبوح بالدقائق الثلاث التي رأيته فيها محض مصادفة عندما تم التحقيق معي بعد عودتي من موسكو في العام 1980، بعد أن أنهيت دراستي. وأخال القارئ يقول: ما هي مبررات سرد هذا اللقاء العابر؟ وأقول: لا مبررات ولا أهمية له البتة، ولكن السؤال في حقيقته هل كان المحقق، في القسم الخاص السابق، سيثق بأن هذا هو كل ما دار بيننا من كلام؟ ومناسبة هذا الحديث الذي أورده هو المقارنة بين زمنين، زمن الكبت السياسي، الذي دفع فيه أبو قيس عمره ثمنا له، وبين حاضر جميل عنوانه حمد بن عيسى، وأسهم في صناعته وتكريسه واقعا ملموسا، ولم يهنأ بمعطياته، لنكتشف، بعد ذلك، أن المساحة الزمنية أثقلت جسده مرضا أودى بحياته، ولكن بعد أن تحقق جزء مما كرس له الراحل كل حياته.
كنت دائما على أمل لقياه، وقد كان متاحا، ولكنني اكتسبت عادة من بيئة محض أسرية، وأظنها فوتت علي كثيرا من الخبرات، وهذه العادة هي ألا استعجل لقاءات ظللت مشدوداً بشوق لحدوثها ولم تتحقق مثل: ذلك اللقاء الذي تمنيته مع سيف بن علي لفترة تمتد ثلاثين عاما ونيف ولم يتحقق، إلا في الجزء الضئيل من الساعة الذي ذكرتها. واستمريت على هذا المنوال في الطبع من دون أن يستطيع أحد تحريضي على التطبع بغيره، إذ إنها تجذرت وغدت، فيما بعد، سلوكا مشبعا بالحياء، وكأن الحياة لتبدو واقفة تنتظر القادمين إليها، حتى قلب الزمن صفحته لأضيف إلى دفتر حسراتي حسرة فوات الفرصة في رؤية أحمد الذوادي حتى وهو محمول إلى مثواه الأخير، وكأني بالسماء غضبت علي من كثرة ما تلكأت في استثمار السانحات من الوقت. عليك الرحمة أيها السيف الذي لن يصدأ
العدد 1408 - الجمعة 14 يوليو 2006م الموافق 17 جمادى الآخرة 1427هـ