يمكن قراءة سبب زيارة المالكي إلى كردستان العراق من خلال نقطتين، الأولى: هاجس بناء الدولة العراقية عند المالكي، إذ تشكل المصالحة الوطنية إحدى أهم ضروراتها، وبالتالي يمكن للأكراد أن يلعبوا دوراً فاعلاً في هذا المجال، فضلاً عن ان مسألة قطع الطريق أمام اندلاع حرب أهلية من مسئولية جميع العراقيين. والأكراد بإمكانهم أن يلعبوا دوراً فاعلاً في هذا المجال، خصوصاً وقد أصبح لديهم معرفة بعدد من الفصائل تعتبر نفسها مقاومة، من خلال لقاءات عدة تمت بين الرئيس العراقي جلال الطالباني والمقاومة العراقية في السليمانية؛ والثانية: هاجس بناء الحكم وتعزيز أركانه وتحديد نوع العلاقة بين الإدارة في كردستان والإدارة في بغداد.
وفي النقطتين نلمس ترتيب الأوضاع الداخلية للعراق وتأهيله، وهذا أمر جيد ويمهد لصيغة من العلاقات بين المكونات العراقية التي مازالت تعيش في رعب وأمامها مستقبل غير واضح، وما يمكن أن تقدمه تجربة كردستان العراق والإدارة الذاتية في ضوء إصرار من قبل بعض الشيعة على تأسيس فيدرالية خاصة بهم في الجنوب، وهذا ما يؤكده دائماً بعض أقطاب السياسة الشيعة. ورئيس الوزراء نوري المالكي ليس بعيداً عن مثل هكذا توجه، كما انه لا يستطيع الابتعاد أو التملص أو حتى منع «الطرح الفيدرالي»، لأن دستور العراق الدائم يسمح للشيعة والسنة أيضا بتأسيس فيدرالية خاصة بهم.
في الحقيقة إن للأكراد تجربة في كلا المجالين، في مجال الفيدرالية أو المصالحة. ففي مجال الفيدرالية، من الممكن القول إن الأكراد أسسوا لأنفسهم صيغة إدارية ناجحة خلال السنوات الـ 15 الماضية، ومن خلال تعاونهم مع الحكومة الاتحادية في بغداد عززوا نموذج الفيدرالية بشكل أوضح. لذلك فإن طرح الفيدرالية من قبل قوى عراقية متعددة قد يصبح عنوان المرحلة، لأن هذا النموذج بالإضافة إلى انه مغر فهو ناجح للعراق، في مقابل نموذج الدولة المركزية الذي أثبت التاريخ أنه غير ناجح وانتهى إلى التأسيس لدولة استبدادية، وهيأ الطريق لحكم الطغيان وسيطرة دكتاتور بعد آخر في العراق. هذا فضلاً عن ان وجود أكثر من 250 مكونا من مكونات الشعب، لا يمكن فرض السيادة وتوزيع الثروات وإعاشة هذه المكونات كلها من خلال حكم مركزي مفرط في مركزيته. هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن لكل مكون هوية وخصوصية، الأمر الذي يفرض على بعض المكونات المطالبة بالإدارة المحلية لتتمكن من الحفاظ على الخصوصية، اجتنابا للصدام بين هذه المكونات.
أما في مجال المصالحة، فيمكن للأكراد استذكار تجربة الاقتتال الكردي الداخلي، وكيفية الوصول إلى صيغ توافقية بين الحزبين الكرديين الرئيسيين، والشكل الذي انتهى إليه الوفاق الكردي يمكن تطبيقه وتعميمه على كل العراق، لكن بشرط أن تكون هناك إرادة الوفاق والمصالحة لدى العراقيين.
إن مسألة المصالحة الوطنية في العراق هي مسألة شائكة ومعقدة ومتشعبة، وثمة أمور خارجة عن إرادة العراقيين تقف عقبة أمام إجراء المصالحة، ولعل أولها ان العراقيين يشككون بنوايا بعضهم بعضاً. والأمر الثاني هو انه لا يمكن القفز على حقيقة ان لدول الجوار علاقة بداخل العراق، سواء سلباً أو إيجابا، ويبدو أن اجتماع طهران بين وزراء خارجية الدول المحيطة بالعراق لم يستطع حل هذا الأمر على رغم طرح وزير الخارجية العراقي لهذا الأمر وتكراره أمام الإعلام في أكثر من مناسبة، فضلا عن كون الموضوع شبه أساسي على جدول أعمال الاجتماع.
الأمر الثالث: إن قتل الناس على الهوية وإثارة الفتن بين الطوائف والمذاهب العراقية، هناك قوى تحت الأرض وخارجها تعمل وتغذي الفتن بشكل واضح مثل جماعات الإسلام الراديكالي في العراق، إضافة إلى التسجيلات الصوتية لقيادات من القاعدة تبثها قناة «الجزيرة» غالباً.
في هذه الأمور الثلاثة، لا نستغرب ألا يقدم الأكراد شيئا للعراق أو للمالكي، ولكن يمكنهم أن يلعبوا على خط آخر، فمثلا بإمكانهم استغلال علاقاتهم مع رؤساء العشائر (السنية) العراقية وخلق نوع من التطبيع بين الجنوب والوسط. كما يمكنهم أن يفعلوا شيئا على صعيد علاقاتهم الإقليمية سواء مع العراقيين أو مع السوريين أو حتى مع الأتراك.
في كل الأحوال، إن زيارة المالكي أتت في وقتها، وهي زيارة استفاد منها الطرفان الكردي وحكومة المالكي، وينتظر العراقيون أن يترجم ما تم التباحث بين الطرفين على الأرض، من أجل تجاوز المرحلة وتجاوز الموت المحدق بأبناء الشعب العراقي في كل دقيقة
إقرأ أيضا لـ "فاروق حجي مصطفى "العدد 1406 - الأربعاء 12 يوليو 2006م الموافق 15 جمادى الآخرة 1427هـ