في 22 سبتمبر/ أيلول 1980 اشتعلت الحرب بين إيران والعراق واستمر أوارها مشتعلاً حتى أغسطس/آب 1988 إذ وضعت أوزارها، وكان لي آنذاك ابن يدرس في طهران في مدرسة أميركية، إلا أنه بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران في فبراير/ شباط 1979، وبعد عام من ذلك حولت المدرسة الأميركية والمدارس الأجنبية إلى إيرانية، وكان لزاما علي البحث عن مدرسة أجنبية في البحرين لهذا الابن، لذلك ذهبت إلى مدرسة الرجاء الأميركية علني أجد مكاناً له. وعلى رغم الجهود المشكورة التي بذلتها وزارة الخارجية، وكذلك جهودي الخاصة، فانها باءت جميعاً بالفشل أمام رفض مديرة المدرسة.
بعدها طلبت المساعدة من وزير التربية الصديق المرحوم الشيخ عبدالعزيز بن محمد، وفوجئت بعد ذلك بقبول هذا الابن، وقد كانت المديرة رافضة له. وكانت مفاجأة سارة أفرحتني بل وأفرحت الكثير من الأصدقاء في وزارة الخارجية الذين كانوا يتطلعون إلى قبول أبنائهم بهذه المدرسة نظرا إلى ارتفاع مستوى التربية والتعليم بها إلى جانب الربط والانضباط. بعد 6 أشهر التقيت مدير التعليم الابتدائي بوزارة التربية والتعليم حسن المحري، فقال لي مازحاً ان قبول ابني كاد أن يقفل مدرسة الرجاء الأميركية بسبب رفضها رسالة وزير التربية والتعليم، ونتيجة ذلك ذكر حسن المحري أن الوزير كان ممتعضاً جداً وطلب من المحري استدعاء المدير الأميركي والمديرة العربية ووجه إليهما إنذاراً لا رجعة فيه لقفل هذه المدرسة إذا لم تتعاون مع الوزارة في هذا الشأن.
كان آخر لقاء لي بالفقيد الشيخ عبدالعزيز في مطلع شهر مايو/ أيار 1981، وودعته على أمل لقاء قريب، ولكن كان القدر المحتوم أسرع فانتقل فقيدنا إلى جوار ربه راضيا مرضيا هانئ البال قرير العين، وحزنت أيما حزن على الفقيد الصديق. وعادت بي الذكرى إلى سنوات الخمسينات عندما التقيته في مصر وعرفت عن قرب أخلاقه وشمائله وما جبل عليه من طبع كريم وتواضع وبساطة. وأتيح لي أن اطلع على أبحاثه الأدبية واللغوية عندما كان طالباً في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وهي الكلية التي التحقت بها العام 1958. كانت أبحاثه تلك تعكس جهداً عالياً واضحاً وتعبر عن شخصيته التي تنم عن فكر عميق وحس مرهف. ولفت نظري في تلك الأبحاث أنها مزدانة بالرسوم الكاريكاتورية لأساتذة أمثال سهير القلعاوي وشوقي ضيف. وهي تعكس بالتالي هواية متأصلة في نفسه وتدل على براعة فنية وفن رفيع تعزز بالمران والمثابرة. وهي أيضاً تعبر بصدق وواقعية عن شخصيته الساخرة بالحياة والأحياء والتي لازمته أبداً في دروب حياتنا الفانية هذه.
كانت شخصيته هذه بطبيعتها ناقدة وتميل إلى الإصلاح والبناء وتنزع إلى النقد والسخرية والتهكم، وتعكس ما تنطوي عليه نفسه من مرارة وألم مستتر، لذلك تجده كلفا برسم أصدقائه ومعارفه وغير ذلك من مظاهر الحياة المختلفة في أوضاع فكاهية ساخرة. ومن تعليقاته اللاذعة الساخرة لأفكار وأساليب أساتذته تلك الملاحظات التي سجلها تعليقاً على قول شوقي ضيف في كتاب له عن تاريخ الأدب العربي، فشوقي ضيف يكثر في أساليبه عادة من عبارة (ويخيل للإنسان كذا وكذا)، فكتب الشيخ عبدالعزيز على هامش الصفحة معلقاً: هل يقصد الدكتور إنسان العين أو إنسان الغابة أو إنسان نساوند... وهذا المثل غيض من فيض.
وكلنا يذكر بالخير والتقدير نشاطه الكبير في إثراء حياتنا الثقافية والأدبية والتعليمية منذ مطلع الستينات، إذ شارك بجهوده الدائبة في الندوات والمحاضرات الفكرية والمسابقات الأدبية والفنية، وكان حضوره مشهودا في تلك المجالات وبصماته شاهدة في جوانبها المختلفة. وكان في نشاطاته تلك بعيداً عن كل ضجيج أو إثارة. وإذا كان مشدودا إلى التراث القديم وبما يتمتع به من أصالة وخلق فقد كان بعيداً عن الجمود والتكلف وإطلاق الشعارات البراقة. وكان احرص على وصل تراثنا بكل معاصر مبدع في إطار من الواقعية والموضوعية والنظرة المتوازنة. وانطلاقاً من احتفاله بالمخبر من دون المظهر سعى دائما إلى الاعتزاز بقيمنا الإنسانية الرفيعة وتخليصها من شوائب الجمود والعقم وإثرائها بكل جديد أصيل. وظل تطوير التعليم بشتى فروعه وتخصصاته هاجسه ومبعث اهتمامه. وقد أسفرت جهوده المتواصلة في السنوات الماضية عن إقامة الكلية الجامعية للعلوم والآداب على رغم شح موارد البحرين المالية، وأذكر أنني كلما التقيت في بيروت الصديق هارولد هولشر (رئيس الجامعة الأميركية آنذاك) بادرني في معرض حديثه عن إنشاء الكلية بالإشادة والثناء على جهود الشيخ عبدالعزيز في إقامة هذا المشروع الكبير على أسس علمية متينة.
وإذا عدنا إلى الستينات، فلابد ان نشير إلى جهوده في نادي الخريجين، إذ تضافرت مع جهود زملائه في توفير المزيد من البعثات الجامعية والتخصصات العلمية المختلفة لأبنائنا الطلبة. ولم تكن البحرين آنذاك لديها الجامعات والإمكانات المتاحة. وكان هدفه هو تأهيل أبنائه تأهيلاً علمياً صحيحاً وعودتهم لخدمة بلادهم. ومعذرة إذا لم أوفِ الفقيد حقه في هذه العجالة
إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"العدد 1406 - الأربعاء 12 يوليو 2006م الموافق 15 جمادى الآخرة 1427هـ