ذاكرة السياسي أصلاً لا تحتمل التذكر إلا أسبوعين فقط، إذا دخل الأسبوع الثالث نسي حوادث الأول، ومعظم المترشحين إلى المجلس البرلماني المقبل في الكويت ينتمون إلى هذه الطائفة من ذوي الذاكرة الضعيفة. بقي أقل من ثماني وأربعين ساعة من «معرفة الحقيقة» التي سيقررها الناخب والناخبة الكويتية بشأن من سيدخل مجلس الأمة في الدورة المقبلة صبيحة الخميس المقبل.
ومثل غيري تنقلت في الأسابيع الثلاثة الماضية بين خيام المرشحين والمرشحات واستمعت إلى أقوالهم، وقمت بمراجعة ما استطعت من نشاطاتهم السابقة (لمن كان يمثل الشعب في المجلس السابق أو قبله).
الجلوس في جوّ تفوق درجة حرارته الثماني وأربعين في أمسيات الكويت الساخنة جداً، هو بحد ذاته عذاب للناخب والمرشح، ولكني لم أستمع إلى وعد من إياهن أو إياهم أن يسعى إلى تعديل توقيت الانتخاب في المرة المقبلة ليكون في «موعد» له علاقة بجوّ أفضل حتى من ناحية المناخ وهو يؤكد الذاكرة القصيرة. الكل مشغول إما بنقد الماضي أو بإعطاء الوعود في المستقبل التي يعرف أو تعرف أنها لن تتحقق. لسبب بسيط وهو أن العضو المقبل لا يستطيع «منفرداً» القيام بأي شيء غير الخدمات الشخصية إن أمكن. فالقيام بعمل له علاقة بالناس يحتاج إلى تكاتف جماعي بين عدد معقول من الأعضاء، حتى الآن، في كل التجربة السابقة، كان ذلك التكاتف هو الاستثناء وليس السائد أو أن يكون تكاتفاً مرحلياً ولحظياً ينتهي ما انتهى الموضوع المطروح، فالتجربة السياسية، من هذا المنحى، لم تنضج.
ذاكرة ضعيفة
مما نشط ذاكرة بعض الأعضاء المترشحين (وهم قلة) في منتدياتهم نقدهم عدم انتظام زملائهم في حضور الجلسات، وسمعت صديقاً منهم يقول على رؤوس الأشهاد إنه كان «يتحايل» على البعض بأن يكملوا النصاب ويحضروا الجلسات، لكنهم يتمنعون عن ذلك بحجج واهية. حضور الجلسات وأيضاً حضور اللجان المنبثقة عن المجلس هو «أضعف الإيمان» بالنسبة إلى عضو مجلس الأمة الذي انتدب نفسه للخدمة العامة، وعلى رغم أن الأسماء تنشر للمتغيبين من دون عذر وبعذر، فإن الإعلام الكويتي، وخصوصاً الصحافة، لم تجرِ دراسة على عدد المتغيبين ومَن هم أولئك المتغيبون ولأية أسباب، حتى يستطيع الجمهور أن يعرف على الأقل مَن منهم جاد في متابعة عمله ومَن منهم «مهمل» حتى يتسنى للناخب/ الناخبة تحديد «المقصر» ومحاسبته.
على استحياء تطرح على الساحة الانتخابية الكويتية قضية أهم من قضية «توزيع الدوائر» وهي قضية التنظيمات السياسية، وقد تحدث عنها بإصرار رئيس المجلسين السابقين المرشح جاسم الخرافي، وهذا الطرح منه بالذات يعني اطلاعه على صعوبة العمل البرلماني «الفردي» الذي يجعل من كل عضو «أجندة» قائمة بذاتها. وربما توافق تقليل حجم الدوائر مع الدعوة إلى التنظيمات السياسية العلنية وهي خطوة كبيرة في سبيل إصلاح النظام البرلماني الكويتي لنقله إلى الأفضل.
التناقض في الوعود
الخلط في المفاهيم غزير غزر عدد المترشحين، وأنا هنا أنقل ما سمعت، فقد التقطت سيدة تتحدث في لقاء عام بذكاء قول أحد المترشحين «المتناقض» في الوعود، فقالت إنه أعلن توافقه مع الإصلاح إلى العظم، أما النقطة الثانية في برنامجه فهو مع «إلغاء الديون» إلى العظم أيضاً، وهو فعلاً تناقض ربما لم يلحظه صاحبنا. أما المثال الآخر فهو قول أحدهم متذمراً (وهو رجل محسوب على المعارضة) إن هناك تعليمات من الحكومة بأن توقف «معاملاتنا»! وفي المضمون هو فشل وضع قوانين تراعي المصالح العامة للناس، حتى لا يضطر أحد إلى أن يسير المعاملات «خارج القانون».
ذلك غيض من فيض في الخلط بين المفاهيم، وهو دليل على يفاعة الممارسة الانتخابية والاحتياج إلى ضبطها لصالح الجمهور.
الأزمات «الدستورية» في البلاد العربية ذات الدساتير القائمة هي أزمات متكررة بل ومزمنة. الجزائر على سبيل المثال تغير نصوصاً أساسية من دستورها كل عشر سنوات تقريباً. لبنان يغير المواد الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية كلما عنّ له ذلك تحت ضغوط سياسية. بعض الدساتير العربية تغير بين عشية وضحاها. قيمة الدستور الكويتي أنه لم يُغير منه نص منذ نيف وأربعين عاماً. قد تكون هذه حسنة للاستقرار، لكن الوضع الطبيعي في التطور يفرض النظر على الأقل إلى مدى ملاءمة عدد أعضاء مجلس الأمة مقارنة بالتطور وحجم التغيرات الديموغرافية التي وصلت إليها البلاد منذ أربعة عقود، فقد زاد عدد السكان من أقل كثيراً من نصف مليون إلى ما يقارب المليون. والدعوة هنا لا لكي يصبح تغيير الدستور كـ «شربة ماء» كما يحدث غالباً في دول عربية كثيرة، لكن أيضاً يجب ألا يكون «استعصاء» أمام الإصلاح المستحق.
المرأة لن تحصل على مقعد
المرأة في الكويت تنتخب وترشح لأول مرة، ولم يستجد جديد لتوقعي أنها لن تحصل على مقعد هذه المرة على الأقل، لا لأني غير مؤمن بمساواتها، لكن لما لاحظت من «قلة وعي» سياسي للكثير من المترشحات والناخبات. فهناك المرأة التي تتحدث عن قضايا المرأة، واهتمام الجمهور أوسع كثيراً من أن يحصر بمثل هذه المقولات، ففي الاستطلاعات التي تمت تبيّن أن الجمهور يهتم كثيراً بالطرح السياسي العام، ولا يعي كثيرون أن هناك فقط تسعاً وخمسين امرأة «إدارية» من مديرة إدارة إلى وزيرة في الجسم البيروقراطي الكويتي! تلك تهتم بها شريحة صغيرة من الجمهور.
المرأة التي تود المشاركة غير قادرة على تحليل البرامج الانتخابية وبيان مدى استفادتها منها، على رغم أن نشاط المترشحين في الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية يكاد يقتصر على النساء، وهو أمر يوحي بأن الجميع يرى في أهمية المرأة كناخبة لترجيح كفة المترشحين هو الأكثر ترجيحاً، ولكن ليس كمترشحة، بل ناخبة فقط، ولم أسمع في طوافي على الكثير من المنتديات الانتخابية أن هناك من يرى من المترشحين توزير امرأتين مثلاً لتطعيم المجلس المقبل، ولا حتى اقتراحاً مستقبلياً بـ «كوتا» خاصة بالنساء ولو بنسبة قليلة.
التجربة العربية أثبتت بما لا جدال فيه أن وصول المرأة إلى السدة البرلمانية دونه عقبات اجتماعية وسياسية معروفة، ولم يتوجه أي فصيل سياسي كويتي حتى الآن إلى ترشيح امرأة والدعوة اليها والدفاع عنها أو حتى دعمها! وحتى الجهد الشبابي الذي انطلق لأول مرة في الكويت بشكل شبه منظم لم يتوجه إلى خلق تيار لدفع ولو امرأة واحدة على سبيل كسر الاحتكار إلى سدة البرلمان المقبل.
وعلى رغم الحديث عن أهمية تغيير الدوائر، والمطالبة بـ «الخمس» من أجل توسيع القاعدة الناخبة، لم يذكر أحد في مطالبه، خفض سن الناخب إلى ثماني عشرة سنة أو حتى عشرين، وهو أمر يكاد يناقض المطالبة بتغيير الدوائر من أجل توسيع القاعدة الانتخابية!
ظروف حل المجلس والقضايا التي أحاطت بهذه الظروف دفعت «المعركة الانتخابية» في الكويت هذه المرة، إلى التقوقع بشأن «الدوائر الخمس» و«الفساد» والإصلاح. وإذا كانت الأولى مفهومة جزئياً للجمهور العام، فإن الاثنتين غامضتان على الجمهرة العامة. وبهذا حرم الجمهور من التوجه لنقاش قضايا لها علاقة بطرق إدارة العمل السياسي (مجلساً وحكومة) أو لها علاقة بمشروع بناء دولة حديثة، مثل التعليم وإدارة المال العام وترشيد الأولويات في المجتمع، أي مشروع الدولة المبتغاة. بل ظهر على استحياء حديث عن «الذمة المالية» للأعضاء «حكومة وبرلماناً» ولكنه كان حديثاً جانبياً لم يكن مركزاً للنقاش العام في منتديات المرشحين.
بعد أيام قليلة ستطوى الخيم المتناثرة وسيكون الناس بعيدين عن «الخمس» أو «العشر» دوائر وخياراتها، وسيعول كثيرون على قصر الذاكرة، فهناك صيف طويل لا يتوقع المواطن بعده أن يرى شيئاً من بقايا الوعود التي نثرت حوله في مخيمات المترشحين، فهناك فصل من البيات طويل حتى تستيقظ أزمات أخرى. إلا أن المؤكد أن الخميس المقبل هو يوم لصناعة تاريخ جديد في الكويت لن تنساه الأجيال المقبلة، وسيكون لمن يريد استمرار الأمور كما كانت حساب في عنق الأجيال القادمة، ومن يريد التطوير لبناء كويت دولة ومجتمع حديثين موقع على خريطة التاريخ
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1390 - الإثنين 26 يونيو 2006م الموافق 29 جمادى الأولى 1427هـ