يعتبر تسعير المياه وكلف إنتاجها وتزويدها واستعادة الكلف من أكثر المواضيع حساسية وجدلاً في مجال إدارة الموارد المائية. فمن جانب، يعتبر وضع تعرفة لاستخدامات المياه من الأدوات الاقتصادية المهمة لهذه الإدارة وخصوصاً الجانب المتعلق بإدارة الطلب، وهي من أكثر الأدوات الفعالة للمحافظة على المياه والاستخدام الأمثل والكفء لها، كما أن تسعير المياه وتحصيل رسوم خدمات إنتاج وتزويد المياه يساهم في استعادة تكاليف هذه الخدمات المقدمة للمجتمع ويساعد على استمراريتها وتحسينها نوعا وكما. ومن الجانب الآخر، تطرح قضايا - مثل احتياجات الإنسان الصحية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، وحق الإنسان في الحصول على مياه شرب آمنة، وقضية العدالة الاجتماعية في الحصول على خدمة تزويد المياه والدفع وغيرها من القضايا - بالمرصاد في وجه تطبيق هذه الأداة الاقتصادية، ما يعقد الأمر أمام الإداريين في قطاع المياه والسلطة التشريعية.
وعموماً فإن استخدام سياسات تسعيرية للمياه في مختلف القطاعات المستهلكة يمثل أحد الأمثلة على حوافز السوق وآليات تطبيق سياسات إدارة الموارد المائية والمحافظة عليها، والتي تعطي إشارات واضحة وقوية لمستهلكي المياه، وخصوصاً إذا تم تصميمها بحيث تشجع السلوك القويم (المرغوب به) وتحد من التصرفات غير المرغوبة اللاعقلانية في التعامل مع المياه. كما أنها من أكثر أدوات الإدارة المائية فاعلية من منظور التكاليف وأقل عبئاً من الطرق التقليدية المسماة بأنظمة «التحكم والأمر»، مثل تحديد الكميات المصرح بها، وتحديد حصص السحب من الآبار، والتراخيص، والتوعية والإرشاد والإقناع، والمشروعات الإرشادية، لأنها عموماً تحتاج إلى إدارة ومراقبة أقل.
ونظرياً، يمكن تحديد أسعار المياه بناء على كلفة تزويدها، أو بناء على كلفة الفرصة البديلة للماء (ولكن عملياً من الصعب تطبيق معيار لكلفة الفرصة البديلة وتحويلها إلى معادلة تسعير قياسية). ويمكن حساب كلفة تزويد المياه باستخدام عدد من مبادئ الكلفة، مثل الكلفة الحدية طويلة أو قصيرة المدى، أو متوسط كلفة التزويد، أو حتى تكاليف التشغيل والصيانة. ويعتمد اختيار طريقة الحساب على أهداف السياسة المائية والأوزان التي تعطى لمختلف الأولويات والمعايير الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. وقد يكون من الأسهل والأكثر واقعية أن يتم تصميم سعر المياه ليغطي الكلفة المالية للإنتاج والتزويد، ومن ثم تدريجياً ليغطي الكلفة الاقتصادية للماء وأخيراً الكلفة الكلية لها. إلا أنه في هذه الحال يجب استثناء فئات المجتمع التي ستتأثر بهذه السياسة التسعيرية لتحقيق العدالة الاجتماعية وتعميق أسسها. كما يمكن فرض جزاءات أو غرامات للمحافظة على المياه على الفئات المستهلكة العليا، يتم استخدام ريعها في تغطية دعم فئات الدخل المحدود والفقيرة المستثناة.
وبما أن المياه لها قيمة اقتصادية بالإضافة إلى قيمتها الاجتماعية، فيجب التعامل معها على أساس أنها ليست سلعة اجتماعية فقط وإنما سلعة سوقية كذلك، وهذا يعني أنه من الممكن رسم علاقة طردية عكسية بين كمية المياه المستهلكة وسعر هذه المياه، وذلك بعد الأخذ في الاعتبار قيمتها الاجتماعية. بمعنى آخر، أن السياسة التسعيرية يمكنها أن تؤثر على كميات المياه المستخدمة إلى حد معين بحيث لا تتجاوز قيمتها الاجتماعية المطلوبة.
ومن المعروف أن هناك الكثير من سياسات وأنظمة تسعير المياه المستخدمة في القطاع المنزلي والصناعي والزراعي. وهذه السياسات والأنظمة تتأثر بتوفر الماء (الندرة)، ومستوى دخل المستهلك، والقطاع المستهلك والقيمة المضافة التي يساهم بها في الاقتصاد الوطني، والعوامل الاقتصادية والاجتماعية. وتشمل أنظمة التسعير هذه نظام «التعرفة الموحدة» (مثل القطاع المنزلي في دولة الكويت وقطر - سعر واحد للمتر المكعب المستهلك من دون اعتبار للكمية المستهلكة، وهو أسوأ أنواع التسعير إذ يشجع على الإسراف). وهناك نظام الشرائح التصاعدية (المتبع في مملكة البحرين والمملكة العربية السعودية في القطاع المنزلي) وهو أفضل النظم التسعيرية عندما يتم تصميمه بشكل جيد لتحقيق المحافظة على المورد والعدالة الاجتماعية. كما أن هناك الكثير من أنظمة التسعير الديناميكية تكون فيه التعرفة متغيرة مع الزمن مثل التعرفة الموسمية (كفصل الصيف مثلاً) وتعرفة الذروة (الفترة المسائية مثلاً)، وفي بعض الدول المتقدمة يتم استخدام نظام تسعير المحافظة وهو نظام يجمع بين أكثر من نظام تسعير يتم تصميمه لتحقيق كفاءة استخدام ومحافظة عاليين، ويجمع بين نظام الشرائح ونظام الذروة وتضاف إليهما جزاءات على الاستخدام الزائد. إلا أن هذه الأنظمة المتقدمة تحتاج إلى قواعد معلومات متقدمة وجهاز إداري عالي المستوى تقنياً بحيث يتيح حساب التعرفة بحسب الموسم وحجم الطلب على المياه.
وهذه السياسة التسعيرية للمياه في قطاع ما لابد من صوغها بحيث تبنى على الكثير من العوامل المؤثرة فيها تحت ظروف كل دولة، مثل طبيعة الطلب على المياه، ونضوب الموارد المائية ومعدله، وندرة الموارد المائية، واستعادة التكاليف، والاعتبارات الصحية والرفاه الاجتماعي والقدرة على الدفع والالتزامات الدينية في حال القطاع البلدي، والمتطلبات التشريعية والإدارية، وتقبل المستهلك والجدوى الإدارية، وكذلك من المهم أن يعكس سعر الماء المفروض على المستهلك نوعية المياه المزودة وتوقيت التزويد وفاعليته.
وإذا أخذنا السياسة التسعيرية للمياه المنزلية في مملكة البحرين، فسنجد أن هذه السياسة لا تتماشى وواقع الندرة المائية ولا تعكس الكثير من المبادئ الحديثة المذكورة أعلاه. فبمقارنة تكاليف إنتاج وتزويد المياه مع تسعير المياه في مملكة البحرين نجد أن هناك فرقاً كبيراً بينهما، اذ تبلغ كلفة إنتاج المياه في مملكة البحرين نحو فلساً للمتر المكعب، وإذا أضفنا إلى ذلك كلفة توزيع المياه إلى القطاع المنزلي وسنجد أنها قد تصل إلى فلساً للمتر المكعب، بينما تبلغ تسعيرة المياه لأعلى شريحة (أي متر مكعب أو أكثر) فلس، أي أنه حتى في حال الشريحة الأعلى فإنها لا تبلغ حد كلفة إنتاج وتوزيع المياه. أي أن المملكة بالتعرفة الحالية لا تدعم فقط الشرائح الدنيا أو المرشدة لاستخدام المياه، وهذا مطلوب بلا شك، وإنما تدعم كذلك الشرائح العليا أو المسرفة لاستخدام المياه!
وإذا نظرنا إلى الكلفة المالية على الدولة، فسنجد أن إجمالي تحصيل الرسوم للمياه لا يتجاوز ما نسبته في المئة فقط من الإنفاق الكلي الموجه نحو قطاع الماء والكهرباء. أي أن الدولة تدعم هذا القطاع بنسبة تصل إلى في المئة، ما أدى الى تراكم عجوزات مالية في قطاع المياه بلغت في الأعوام الماضية أكثر من مليون دينار بحريني. وإذا ما أخذ في الاعتبار تراجع احتياطي الغاز الطبيعي بمملكة البحرين، واستمرار تدهور الموارد الجوفية الطبيعية، ومحدودية الموارد المالية للملكة وارتهان موازنتها العامة بأسعار النفط العالمية، فإن استمرار هذا الوضع سيؤدي بلا شك إلى نتائج سلبية اقتصادية واجتماعية على المملكة، ويهدد استدامة توفير خدمات المياه المستقبلية.
ويتطلب هذا الأمر مراجعة السياسة الحالية وصوغ سياسة واقعية لتسعير المياه في القطاع المنزلي بحيث تعتمد على تحديد احتياجات الفرد البحريني الحقيقية تحت ظروف مملكة البحرين المناخية والاجتماعية والاقتصادية والتي تضمن له المستوى المطلوب للحياة والنظافة، وذلك من خلال عمل مسح ميداني لطبيعة استخدام المياه المنزلية وربطها بشرائح مستويات الدخل في الدولة، ومن ثم صوغ سياسة تسعيرية تعكس أهداف الترشيد المطلوبة وتغطية الكلف واستدامة الخدمة وجودتها، وفي الوقت نفسه تحقق العدالة الاجتماعية بين فئات المجتمع البحريني المختلفة.
وفي الواقع، لابد من إعادة النظر في سياسات التعرفة المائية لجميع القطاعات المستهلكة للمياه في مملكة البحرين وليس للقطاع البلدي فقط وبشكل أكثر شمولية وعمقاً، وأن يعاد صوغها اعتمادا على منهج علمي سليم، وضمن سياسية مائية شاملة وواضحة، تهدف إلى المحافظة على الموارد المائية بجميع مصادرها الطبيعية والصناعية منها في المملكة، وهو أمر، للأسف، مازلنا نفتقده حتى الآن على رغم حدة المشكلة المائية التي نواجهها حالياً ولا تبدو أنها إلى تناقص في المنظور المستقبلي
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1388 - السبت 24 يونيو 2006م الموافق 27 جمادى الأولى 1427هـ