لا أعرف، لكنني لا استبعد، أن يكون عنوان المقال اسماً حقيقياً قائماً لحزب من الأحزاب العربية، أو أنه لايزال تحت مجهر المفتونين بالمسميات لا الأفعال، ليقفز بعد حين في المشهد. ولا أتوقع أن هناك حزباً لا يحمل اسمه إحدى المفردات إياها، نظراً إلى جاذبيتها واستجابتها لهذا الضخ الإعلامي الذي يوقف الأمة على أمشاطها تأهبا لذلك المعتدي الذي يهم بالقضاء على العرب والمسلمين وتدمير تراثهم.
من دون أن أؤكد لكم أن مسمى الحزب يحمل المعنى الحقيقي للمفردة، كأن يكون إسلامياً في تمثيله الشامل للمسلمين من دون اعتبارات مذهبية، أو ديمقراطياً حقيقياً من دون الاختباء خلف سدم معطيات عربية خالصة تتذرع بالخصوصية، ولا تتورع في ذبح الديمقراطية، من الوريد إلى الوريد، تحت مسميات المثل والقيم والثوابت. في حين أن المعروف عن الحزب السياسي أنه ممثل طبقي لتجمع بشري يصوب ثاقب نظره نحو المصالح الاقتصادية ويؤطر عمله في شكل منظم، ولا يعير التفاتا لعرق الإنسان أو ديانته أو جنسه.
ولعل المتأمل في خريطة الأحزاب السياسية في البلدان العربية، والبحرين من ضمنها، يلحظ أمرين مثيرين للدهشة، الأول هو عشوائية تبعثرها على ساحة الوطن حتى ليبدو لمن يرصد تكاثرها وتضخم أعدادها أننا بصدد تأسيس أندية رياضية، وثانياً غرام كثرة من هذه الأحزاب بإشهار مسمياتها الحزبية ملحوقة بالإسلامية أو القومية أو المسميين معاً، إمعانا في الإصرار على أن الأحزاب ما هي إلا تجمعات عرقية أو دينية، يأتي في أول اهتماماتها، أفصحت عن ذلك أم لم تفصح، إقصاء المختلف وضرب إسفين يقطر عنصرية بين أبناء الشعب الواحد، بما يضاعف من حدة الجدل العام والمهم عن سؤال يطرحه العلمانيون يتعلق بالدين والسياسة وضرورة الفصل بينهما. فهل سيجد صداه في الواقع على المدى المنظور، لتغدو الدولة، وليس المجتمع بطبيعة الحال، بالسياسة وحدها أقوى من أن تكون مركبة من الدين والسياسة؟!
قد يكون وصل إلى اسماعكم، مثلي، لارتفاع في ضجيج الاستغاثة، التي ترج المشاعر، على الدين والقومية التي يطلقها أولئك الذين أدمنوا احتكار التمثيل الشعبي في سرديات خطابهم، وإلصاق مختلف نعوت التخوين للذين يسعون إلى الارتقاء بالوعي الوطني والسياسي والديمقراطي عند المواطن من مداخل مختلفة لانتشاله من حال البؤس المسكون بها نتيجة توجسه وارتيابه من كل جديد وغريب قادم من دول التقدم، والذين أسهبوا بإلحاق أسماء أحزابهم بالمسميين، ليأمنوا، متوهمين، نقداً محتملاً ومساءلة وطنية مدفوعة بغيرة على الصالح العام، أو أنهم ليضمنوا، راجين، انخراط كل منتم إلى العروبة والدين في صفوفهم ولو كان سبب ذلك مجرد تماسات عاطفية لا أكثر، أو التقاءات ولدتها المصادفة بين المسميين والمنتمين إليهما، وصقلها النظام الرسمي عبر مؤسساته التي يهيمن عليها القوميون في بلدان معينة والإسلاميون في أخرى. على أن الأمر في واقع حدوثه لا يتحصل وفق الرغبة، لا في الوهم الأول ولا في الرجاء الثاني. ذلك أن الوعي السياسي آخذ في الصعود ليلامس حدا أدنى تغدو معه القدرة مناسبة للقيام بعملية الفرز المطلوب بين العمل السياسي، بوصفه عملاً متاحاً للمواطن وحقاً دستورياً له، وليس بالضرورة أن يكون قومياً أو إسلامياً، وبين الوعظ الديني، بوصفه خطاً مغايراً وسياقاته مختلفة.
في حين ينبغي أن نقر بأن هناك نجاحات واضحة في المشهد تتحقق لهذه الأحزاب، ليس على صعيد الشارع وإنما في أوساط النخبة المثقفة، في ظني أنها لا تعزى لعمل خارق يتجاوز النشاط العادي الذي تمارسه الأحزاب الأخرى، إذا ما استثنينا الحظوة ودفء العلاقة التي يتمتع بها الإسلاميون عند الحكومات (البحرين مثالاً) باعتبارها صاحبة القاعدة الجماهيرية الأعرض التي لا توجد حكومة في غنى عن دعمها، إنما ذلك متعلق بالمفصل التاريخي وتابع له.
فالأسباب التي تفسر تلك النجاحات كثيرة تبدأ، في اعتقادي، من استثمار الحاجة الاقتصادية وفك أزمات المواطن البسيط الذي يرزح تحت طائلة النهب والاستغلال، وفتح وعيه على حجم الفساد الذي لا يليق بمواطن مسلم، تشرب مفاهيم العدل والمساواة أن يسكت عنه، وان سكت عنه، وهذه هي التقية التي تفسر عدم وضوح الدور السياسي للتيارات الإسلامية السنية في البحرين، فليس مطلوباً منه إلا الوقوف مؤيداً، في صمت، لسياسة هذه الأحزاب الإسلامية، حتى جاءت اللحظة للاستثمار المناسب، وهي الانتخابات التشريعية التي يعبر عنها وصول أحزاب إسلامية إلى المجالس التشريعية في مصر والبحرين، كما أن للجانب السياسي أسبابه في تفسير ذلك، تبدأ، في اعتقادي، منذ انتصار الثورة الإيرانية وما استولدته من شك وريبة وتوجس انبعثت مع ما كان رائجا من نية في تصدير تلك الثورة إلى المجتمعات الإسلامية الأخرى. أضف إلى ذلك الغزو السوفياتي لأفغانستان، وفتح آفاق العمل الجهادي بشكل علني في كثير من الدول العربية والإسلامية، إن لم يكن كلها، لأول مرة منذ تأسيس الدولة العربية الحديثة، وذلك ما أضفى شرعية قبول مجتمعي لكل ظواهر الإسلام السياسي، حتى بدا لكثرة من الناس أن الوقوف على الضد من بعض المواقف السياسية لتيارات الإسلام السياسي، هو الضد من الإسلام نفسه، وهذا، في اعتقادي، يفسر العثرات الواضحة لليسار في كل البلدان العربية والإسلامية.
وإلى جانب ما تقدم هناك التأثيرات السياسية اليومية التي تعكس لا حيادية مواقف أميركا وعموم البلدان الأوروبية من مسألة الصراع العربي الإسرائيلي، الذي تشكل فيه فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني ثابتاً من ثوابت العرب والإسلام لا يقبل المواطن العربي التنازل عنه بالطريقة الإملائية التي سارت فيها مفاوضات السلام العربية الإسرائيلية، كما أن الوضع المستجد في العراق من بعد الإطاحة بصدام حسين قبل سنوات يشكل رافعة متينة للتيارات الإسلامية على مختلف أطيافها.
كل ما تقدم له انعكاساته القوية والخطيرة على المواطن العربي المسلم أخذ يترجم نفسه في مسميات حزبية تعكس معتقده ويأمل على يدها الخلاص، ولكنها لا تستجيب كلية للمصلحة العامة. أما ما يتعلق بالديمقراطية وحرية الرأي والتعبير وما إليها فهي ديكور مكمل لعملية القفز على السلطة فرضه الزمن المعولم، ومن بعدها لا ديمقراطية ولا حرية رأي ولا تعبير ولا هم يحزنون
العدد 1373 - الجمعة 09 يونيو 2006م الموافق 12 جمادى الأولى 1427هـ