إن استنهاض القوة الروسية، كما هو حاصل حالياً، يقاس بمدى تراجع جبروت القوة الأولى العظمى في العالم، كذلك بانكفاء أوروبا التي تحاول جاهدة جمع قواها السياسية والاقتصادية والعسكرية بأي ثمن. فالتقارب الروسي - الصيني من جهة، والعودة إلى منطقة الشرق الأوسط من البوابة الإيرانية، وتسجيل النقاط في محيطها، ما كان يسمى بجمهوريات الاتحاد السوفياتي، دليل على أن عالم القطب الواحد الذي بدأ في مطلع التسعينات، لم يعد اليوم على حاله.

تُطرح اليوم أسئلة كثيرة بشأن الدور المستجد لروسيا التي يبدو أنها استعادت جزءاً من قوتها المفقودة. ذلك، بعد الاعتقاد بأنها ضُربت لفترة طويلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومعه الشيوعية. ومن ضمن هذه الأسئلة: هل يمكن لموسكو أن تلعب دوراً مؤثراً في إطار مستقبل سياسي محتمل لأوروبا؟

الحاصل على أرض الواقع في هذه المرحلة يؤكد نسبياً هذا الإمكان. فخلال عدة أشهر، تغيرت النظرة إلى روسيا. فهذه القوة التي أصبحت كالرجل «المهترئ» داخل أوروبا، بدأت تستعيد عافيتها عبر خطوات متوازنة ومدروسة بعيداً عن الضجيج الإعلامي واستعراضات القوة. الأمثلة على ذلك كثيرة، أبرزها عودة نفوذ السلطة المركزية التي رافقها كسر شوكة رموز السيطرة على الاقتصاد، ولاسيما في مجالي النفط والغاز. في هذا الإطار، بدا فلاديمير بوتين الأقوى في المعادلة القائمة الهادفة إلى إثبات صحوة روسيا. الدليل، عدم رضوخه إلى الضغوطات التي رافقت ندبه إلى مراكز القوى المختلفة، الداخلية منها، والمرتبطة بالخارج، تحديداً بالولايات المتحدة الأميركية ومجموعاتها الاقتصادية الضاغطة.

ولم تتأثر روسيا بوتين وصحوتها بطروحات أوروبا المؤسسات التي تُعدد انتهاكات موسكو لحقوق الإنسان في الشيشان، وبالثورات الملونة المحيطة بالامبراطورية السابقة، بل استمرت في تعزيز عودتها القوية إلى مناطق نفوذها السابقة. فسمعتها السياسية والديمقراطية بحسب المقياس الغربي لا يبدو أنه يهمها إلى الحد الذي تتلو معه «فعل الندامة» على خطواتها وتتراجع عنها ببساطة. فمع تأكيد قوتها وفق دينامية جديدة، تسلط روسيا حالياً الضوء أكثر فأكثر على العجز المتزايد لأوروبا التي تحاول، من دون جدوى، نقل قوتها وتحويلها إلى دينامية سياسية بعد أن نجحت نسبياً في تثبيتها اقتصادياً عبر فتح الحدود وتعزيز وضع عملتها الموحدة، اليورو في وجه الدولار.

ملء الفراغ بالتوجه شرقاً

إذا كان بعض المحللين السياسيين والاقتصاديين أبدوا اهتماماً كبيراً بالزيارة التي قام بها بوتين لبكين في مارس/ آذار الماضي، رافقه خلالها نحو شخص، فإن الغرب كان غائباً عن متابعة هذا الحادث وأبعاده كما يجب. ولم يتحرك إلا بعد إعلان توقيع سلسلة من العقود العسكرية والاقتصادية التي تحمل في طياتها بدايات لتعاون استراتيجي مستقبلي. وكان البلدان عمدا قبل ذلك بأشهر إلى إجراء مشاورات عسكرية مشتركة تم إبعادها عن الأضواء والتقليل من أهميتها عن سابق تصور وتصميم. فلم ينتبه الأميركيون ولا الأوروبيون إلى خصوصية واستهدافات اتفاقات الطاقة الموقعة، وتحديداً فيما يتعلق بالغاز وخط الأنابيب عبر سيبيريا. فهذا المشروع حقق استقراراً للصين، في حين رأت فيه موسكو نوعاً من التبعية اليها.

فلم يستفق الأوروبيون وبدأوا بالصراخ بأعلى صوتهم إلا عندما طغت الأزمة الأوكرانية - الروسية على السطح يوم عيد رأس السنة الميلادية، أي عندما اكتشفوا في هذه اللحظة فقط، تبعيتهم كمستهلكين للغاز الروسي. فمنذ تلك اللحظة وهم يتحركون في جميع الاتجاهات لإيجاد الحلول البديلة بما فيها استخدام الطاقة النووية أكثر فأكثر في المستقبل. وجاءت الانتخابات بعدها بأشهر لتؤكد أن محاولة الانفصال العملية لأوكرانيا عن روسيا كانت من ضروب الوهم الغربي، وأن للثروة البرتقالية السياسية حدوداً اقتصادية وجغراستراتيجية.

فخلفية التقارب الروسي - الصيني يجب وضعها في سياق تعزيز مصالح كل طرف في محيطه. فالماردان الشيوعيان السابقان متفاهمان على الخطوط العريضة لأن اقتصاداتهما متكاملة، ومصالحهما الجغراسياسية متقاطعة، ما يفرض عليها التلاقي في الكثير من المجالات الأساسية. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالأميركيون كتبوا الكثير من التعليقات عن هذا الوضع المتغير، أبرزها ما جاء عن الخبير في القضايا الآسيوية في مؤسسة هيرتاج فونداشيون ارييل كوهين، الذي يلخص هذا التوجه في الآتي: «إن التقارب الصيني - الروسي الحاصل اليوم هو انعكاس لاستراتيجية ميزان القوى في هذه المنطقة من آسيا. فالدولتان اللتان أقامتا هذا التحالف الاستراتيجي تسيطران عملياً على البقعة الممتدة من جنوب بحر الصين إلى بحر البلطيق».

يشار إلى أنه خلال زيارة بوتين للصين، أبرزت صحيفة «البرافدا» الروسية صفحة خاصة نقلاً عن موقع الرئيس الروسي على الإنترنت تحمل عنواناً رئيسياً: «روسيا والصين تطوران علاقاتهما التي ستواجه السيطرة الأميركية». على أية حال، فإن هذه التوجهات المختلفة تستهدف إفهام الجميع بأن الاتفاق الصيني - الروسي هو أبعد من ذلك، فهو «محور استراتيجي جديد»، يتحتم على الغرب عدم التقليل من أهميته أو أبعاده في المرحلة المقبلة.

فالصحوة الروسية والتقارب الحاصل مع الصين والعودة التدريجية إلى المياه الدافئة في الشرق الأوسط لم تأتِ حتماً من فراغ. فالروس يعلمون أكثر من غيرهم وضعية الدولار الأميركي المُربكة، والحجم المقلق للدين الأميركي، وتأثير الاستثمار الخارجي في أميركا، إلخ... كما أنهم خير من يدرك أن الاتحاد السوفياتي لم ينهر إلا بسبب العجوزات الاقتصادية التي تراكمت عليه وجعلته غير قادر على اللحاق بالتقدم الأميركي على المستويات كافة. فالنمو الاقتصادي الثابت لروسيا مع ارتفاع أسعار النفط والغاز، والتسديد المسبق للديون وتزايد الصادرات يشجع اليوم القيادة الروسية على استعادة بعض من نفوذها حتى في الغرب. انطلاقاً من هذا الواقع، يمكن فهم التشاور المستمر بين الرئيس الفرنسي جاك شيراك ونظيره بوتين من جهة، والهجوم «الكاسح الماسح» من قبل نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، على روسيا الذي أعقبته جولة من قبل هذا الأخير على الجمهوريات المحيطة بها في محاولة لشحذ هممها وعدم الرضوخ إلى النفوذ الروسي المتنامي.

حنين مبرر للمياه الدافئة

لقد سهلت الجمهورية الإسلامية في إيران عودة روسيا إلى المنطقة، وعرفت كيف تضعها مجدداً في قلب المعادلة الدولية فيها من خلال التعاون النووي والتنسيق في مجالات عدة ستكشفها المراحل المقبلة من دون شك. وكانت طهران أول من قرأ بوعي مؤشرات الصحوة الروسية منذ عدة سنوات وعملت على أساسها في تحديد استراتيجيتها، وخصوصاً بعد التورط الأميركي في العراق. ومع استعادة قوتها التدريجية، عمدت موسكو إلى فتح ملفات علاقاتها العربية، الواحد تلو الآخر، مستفيدة من مساوئ السياسة الأميركية المؤيدة بشكل أعمى وغير متوازن لـ «إسرائيل» من جهة، واستعدائها العالم الإسلامي بغض النظر عن أزمة الشيشان. وما عودة روسيا إلى الوقوف مجدداً إلى جانب دمشق - سواء في المحافل الدولية عندما اشتدت عليها الهجمة مع انسحابها من لبنان، أو عبر تحويل أجزاء من دَين الاتحاد السوفياتي السابق عليها إلى استثمارات - إلا دليل على تصميم روسيا على استعادة بعض من نفوذها في المشرق العربي. وما الحديث أخيراً عن وجود قادة بحرية روسية في ساحل اللاذقية بسورية سوى مؤشر على التزام موسكو بمساندة دمشق حتى ولو كان الهدف منها مراقبة تحركات الإرهابيين في منطقة البحر الأبيض المتوسط. ويلفت وجود الشركات الصناعية الروسية بكثافة في جميع المعارض التي تقام بمنطقة الخليج، بما فيها العسكرية، والإقبال المتزايد عليها. ويشار في هذا السياق إلى اختراق الشركات النفطية والغازية أسواق العالم العربي والتموضع في مجالات التكرير واستكشاف وإنتاج الغاز.

ومن مؤشرات الصحوة الروسية، استعادة موسكو مكانتها في السوق الجزائرية. فبعدما عززت إنتاجها العسكري في هذا البلد عبر عودة الجزائر إلى شراء الطائرات الحربية الروسية ومعدات أخرى، تستعد شركة «غاز بروم» للتعاون البعيد المدى مع شركة «سوناطراك» الجزائرية في مجال تطوير حقول الغاز والاستثمار فيها. ولم تؤدِ رغبات الولايات المتحدة في هذا الشأن من خلال الرسالة التي حملها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد إلى الرئيس بوتفليقة إلى ثني السلطات الجزائرية عن فتح أبواب الاستثمار في قطاع الطاقة للروس. ومن مظاهر زيادة التقارب مع هذا البلد، الإعداد لمناورات بحرية لأسطولي البلدين في الصيف المقبل، أمر تراقبه عن كثب منظمة حلف شمال الأطلسي.

في التوجه نفسه، تعمل روسيا على الحضور في قلب النزاع الإسرائيلي الفلسطيني من خلال إبقاء أبوابها مفتوحة للسلطة الفلسطينية وللحكومة الحالية. فقد بادرت موسكو ورئيسها إلى استقبال وفد من حماس ووعدت بتقديم مساعدات مادية إلى السلطة والشعب، في الوقت الذي كانت فيه واشنطن والاتحاد الأوروبي يعلنان قطع هذه الأخيرة عن الفلسطينيين. ولا يتردد الإسرائيليون في التذكير بأن روسيا بوتين تسير اليوم على خطى الاتحاد السوفياتي. الدليل على ذلك، أن زيارة رئيس جمهورية روسيا للدولة اليهودية في العام الماضي كانت فشلاً ذريعاً مقصوداً من جانب بوتين الذي تعمد تركيز لقاءاته على رجال الدين الأرثوذكس متجاهلاً المسئولين الإسرائيليين والجالية الروسية اليهودية التي غادرت البلاد.

وتعيد المواقف الروسية المناهضة لطروحات أميركا وأوروبا في الأمم المتحدة بالذاكرة إلى مواقف الاتحاد السوفياتي السابق، ما يشير إلى أن موسكو باتت على الأرجح تملك الوسائل التي تضمن تنفيذ سياساتها، مستفيدة من حال التخبط الأميركي على جميع المستويات من جهة، ومن جهة أخرى الانكفاء الأوروبي الذي يخسر يومياً من جراء التبعية لسياسات الولايات المتحدة الأميركية في العالم. ومن مظاهر القوة الروسية، تدفق الاستثمارات بأشكال مختلفة على دول الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً تلك ال