العدد 1372 - الخميس 08 يونيو 2006م الموافق 11 جمادى الأولى 1427هـ

باب الاجتهاد مفتوح لأن الإسلام دين ينبض بالحياة

محمد هشام قباني comments [at] alwasatnews.com

.

أحد الانتقادات الموجهة إلى الإسلام هو أنه دين تجمد في الزمن، ولم يتبن نماذج جديدة من العالم الحديث. الواقع أن الإسلام كان دائماً ديناً حياً نابضاً بالحياة يتأقلم مع الظروف الجديدة والمتغيرة.

وعلى رغم محاولة بعض العلماء تجميد تفسير الإسلام فإن معظمهم يقبلون وجهة النظر القائلة إن القانون الإسلامي الإلهي، أو الشريعة، يمر بعملية مستمرة من إعادة التقييم بحسب مبادئ التفكير المنطقي القضائي، هي عملية الاجتهاد. هدف عملية الاجتهاد المستمرة هذه أن تتأقلم الشريعة مع الظروف الاجتماعية المتغيرة. لذلك يقول معظم العلماء المسلمين إن «باب الاجتهاد» يبقى دائماً مفتوحاً.

للاجتهاد تاريخ غني خلافي يستحق الدراسة حتى يتسنى فهم القضايا التي تحيط به اليوم. مفهوم الاجتهاد بر« من الضرورة في فترة غنية بالحوادث عندما كان المجتمع المسلم يمتد بسرعة نحو بلاد وثقافات جديدة. ومع هذا الامتداد تعرضت قدرة الإسلام على التأقلم مع بيئات جديدة إلى الاختبار، ورأى مجتمع المؤمنين الحاجة إلى التطوير وإضفاء صورة رسمية على أساليب تعديل الأنظمة الإسلامية مع المضامين الاجتماعية الثقافية المختلفة. علماء متألقون بارعون ظهروا ليقودوا هذا الجهد، وكان لكل منهم اتصال مباشر مع النبي (ص) وصحابته أو من خلفهم، وهي ممارسة ضمنت أصالة فهمهم لهذه العملية المعقدة من التأقلم.

وعلى رغم أن القرآن والحديث (تقاليد النبي (ص) والصحابة) تثبتت في زمان ومكان ومحيط اجتماعي ثقافي محدد في بلاد العرب في القرن السابع، فإن رسالة الإسلام والقانون اللذين أتت بهما كانت لكل زمان ومكان. لذلك سعى العلماء لاختراق المبادئ وراء آلاف القرارات التي اتخذت أيام النبي (ص) وخلفائه حتى يتسنى لهم إنشاء نظام قانوني مبني على السوابق، يوفر أساساً ثابتاً لواضعي القوانين في المستقبل.

هذه المبادئ تضم إجماع العلماء، والتماثل مع أحكام سابقة والسعي وراء الصالح العام ومبدأ أن الضرر الأقل هو خير من الضرر الأعم، وأهمية العادات والممارسات التي كانت موجودة سابقاً. هذه المبادئ تنص على أنه يمكن للقانون أن يرتكز على السابقة، وهذا لا يختلف عن الأسلوب الذي يتوجب فيه على القانون الأميركي المعاصر أن يتطابق مع سابقة قانون قائم وتاريخ قضية قانونية، أو الأسلوب الذي يبني فيه قانون «كشروت» اليهودي على أحكام العلماء الماضين، التي تعتمد على تماثل الحالات التي تتعامل معها التوراة بحسب تقاليد النبي موسى (ع) والأنبياء اليهود.

عبر العصور قام الكثير من العلماء بتطوير مدارس متنوعة في الفقه تعتمد على هذه المبادئ. وبعد ثلاثة قرون كانت هناك أكثر من أربعمئة مدرسة مختلفة، توجد بينها اختلافات دقيقة في التفسير. ولكن ولسوء الحظ وبدلاً من الاستفادة من تنوع الآراء أصبح أتباع مدرسة ما أحياناً غرماء لأتباع المدارس الأخرى، مصرين على أن تفسيراتهم وأساليبهم هي وحدها الصحيحة. وننتج عن ذلك حوار وجدل ونزاع، وفي نهاية المطاف وصل الأمر إلى سفك الدماء بين أتباع المدارس المختلفة، وهو أمر لم يقصده المؤسسون في يوم من الأيام.

وحتى يتسنى إيقاف هذا الارتباك قام علماء السنة المسلمون في القرن الرابع عشر بمنع إنشاء مدارس جديدة. بعد ذلك تم تخفيض عدد المدارس «المقبولة» إلى أربع ذات أكبر عدد من الأتباع، وسمي كل مذهب تابع لها بحسب العالم الفقيه الذي أسسها: المالكي والموجود بالدرجة الأولى اليوم في إفريقيا، والحنفي الموجود في أواسط آسيا وتركيا والبلقان ونصف القارة الهندية، والشافعي الموجود في الشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا، والحنبلي المتبع بشكل رئيسي في شبه الجزيرة العربية.

مع إنشاء المذاهب الأربعة تم تحديد عملية الاجتهاد حتى يتسنى منع الصراع الانشقاقي الذي تلا بانتشار أساليب تفسير الشريعة الإسلامية، ولكن ذلك لم ينته. بدلاً من ذلك ومع مرور الزمن عملت هذه المذاهب على تنقية مذاهب مؤسسيها في استنباط القوانين والأحكام القانونية. مع حلول وقت ظهورها كمذاهب سنية أربعة كان كل منها أسس منهجاً متكاملاً للإجابة على الأسئلة القانونية في ضوء الأيام والأماكن والظروف والبيئات المتغيرة.

ومن الأمثلة التي يستشهد بها كثيراً أسلوب الإمام الشافعي الذي اتخذ توجهاً متراخياً في البداية عند صوغ القرارات الأساسية لمذهبه في بغداد، فيما يتعلق بالتفاعل الاجتماعي بين الرجال والنساء في الأماكن العامة. إلا أنه وبعد انتقاله إلى القاهرة، نادى بقوانين أكثر حزماً للتفريق بين الجنسين. وعندما سئل لماذا فعل ذلك، ذكر الفروقات الثقافية التي لاحظها بين المصريين والعراقيين والتي تطلبت أنظمة أكثر صرامة لمنع الزنا.

ومن الأمثلة الأكثر حداثة لهذا النوع من التفكير، نجدها في الحكم القانوني الذي أصدره الشيخ علي جمعة مفتي مصر الأكبر الذي يسمح للمسلمين الذين يعيشون في أراضي غير مسلمة بأن يشتروا ويبيعوا ويقدموا المشروبات الكحولية. وجاء هذا الحكم صدمة للكثيرين، ولكنه مبني على تحليل منطقي قانوني إسلامي راسخ. وعلى رغم أنه يبدو وكأنه يعارض بوضوح القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف إلا أنه يرتكز على حكم سابق للإمام أبوحنيفة التي يعتبر مذهبه الأوسع انتشاراً في العالم. وناقش الإمام أبوحنيفة أنه في المكان الذي لا يوجد به التزام بالشريعة، يمكن للمسلمين أن يلتفوا من وراء القانون بحسب حاجتهم الحيوية. وهكذا استنبط الشيخ جمعة حكمه ليس من انفتاح جديد على الكحول في الإسلام وإنما من مبدأ أعلن قبلاً في الإسلام من قبل الإمام أبوحنيفة، مؤسس أحد المذاهب الأربعة في الإسلام.

هذه الأمثلة تثبت الطبيعة الحية النابضة للفقه الإسلامي، إضافة إلى قدرته على الاستجابة لتحديات جديدة وأوقات متغيرة. إلا أنه يتوجب التأكيد أن هذه الممارسة من التفكير المنطقي القانوني أو الاجتهاد، تقتصر بشكل حازم على هؤلاء الذين يملكون التدريب القانوني والروحي المطلوبين والمعرفة الضرورية.

الفقه لا يتطلب فقط المعرفة بالنصوص المقدسة وتفهمها، وإنما فهماً عميقاً للظروف المحيطة بالموضوع الذي يجري التعامل معه، وحكمة روحانية حدسية، ترشد القانونيين نحو قرار يحقق ليس فقط حرفية القانون، وإنما كذلك الوقائع العملية لزمان ومكان محددين. الحكمة الروحانية الضرورية لاستنباط أحكام كاملة مثمنة ليست أمراً يأتي من الدراسة المستفيضة أو الاستذكار، وإنما هي نور داخلي يأتي من التقوى الصادقة بالله والاتصال الروحاني بمصدر الإرشاد. هذا النور يتم تطويره ورعايته من خلال الممارسة المضنية تحت إرشاد علماء متمرسين في الإرشاد الروحاني والتنوير.

تاريخ الإسلام يظهر أن الاجتهاد والتفكير المنطقي القانوني، الذي يمارسه علماء متنورون روحانياً، قد قلن من تأقلم الإسلام الاجتماعي والثقافي والفكري مع مضامين كثيرة لا تعد ولا تحصى. هذا التراث الحي النابض، المنفتح للتغيير والتأقلم، سيستمر في الحفاظ على الإيمان لقرون كثيرة مقبلة.

ملاحظة: الشيخ محمد هشام قباني هو مؤسس المجلس الإسلامي الأعلى في أميركا ورئيسه، وهذا المقال ينشر بالتعاون مع خدمة «كومون غراوند»

العدد 1372 - الخميس 08 يونيو 2006م الموافق 11 جمادى الأولى 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً