تحت عنوان «خيانة الديمقراطية»، قلنا في مقال الأسبوع الماضي «إن هناك ثلاثة أطراف شاركت في هذه الخيانة، وتعرضنا لاثنين هما، أولاً نظم الحكم القائمة، وثانياً الأحزاب السياسية والقوى الليبرالية التقليدية.
اليوم نتحدث عن الخائن الأكبر، ونعني الولايات المتحدة الأميركية، التي تمارس الانتهازية السياسية في عالم اليوم، بأوسع الزوايا، فما يهمها هو مصالحها الحيوية، وإن تحدثت عن التقدم والديمقراطية والقيم الليبرالية، فهي تتحدث عن بضاعة للتصدير إلى دول أخرى، تساعدها أحياناً. وتستغلها أحياناً. وتمن عليها في كل الحالات وصولاً للهيمنة...
ولعلنا نذكر أن السياسة الأميركية، أصيبت بلوثة رهيبة، منذ وقوع الهجمات الدموية على نيويورك وواشنطن في سبتمبر/ أيلول ، فقد أعلن الرئيس بوش الابن شن الحرب الأميركية الشاملة على «العدو» لتحقيق ثلاثة أهداف أولية، هي القضاء على منظمات الإرهاب «الإسلامي والعربي» وتدمير مصادره. وإجهاض محاولات الدول المارقة، وأولها العراق، الحصول على أسلحة الدمار الشامل، وأخيراً زرع الديمقراطية ونشرها في الدول العربية والإسلامية، التي تخلفت وانغلقت إلى الحد الذي صارت فيه بؤراً للمتطرفين والإرهابيين.
وقبل أسبوعين، وبمناسبة دخول الحرب الأميركية والأوروبية، عامها الخامس في أفغانستان، وعامها الرابع في العراق، اعترف الرئيس بوش، وتابعه رئيس وزراء بريطانيا طوني بلير، لأول مرة في لحظة اعتراف شجاع نادرة، بأن الحرب كانت خاطئة! وهو اعتراف على أهميته، فإنه جاء متأخراً لا يفيد، لأن الحرب التي طالما وصفوها بأنها حرب الخير ضد الشر، والحرب الشريفة النظيفة، كانت قد دمرت وأحرقت وقتلت ومارست أقسى درجات العنف والمذابح الجماعية والتعذيب الوحشي، بما سيسجله التاريخ في أسود وأسوأ صفحاته... فماذا يفيد الاعتراف أو الندم بعد وقوع الجريمة!
في الأسبوع الماضي، وخلال الاحتفال باليوم الوطني الأميركي لضحايا الحرب، قال الرئيس بوش ذاته: إن «أمتنا ترتدي الحداد على رجالنا ونسائنا في الجيش الأميركي الذين خسرناهم» ثم اغرورقت عيناه بالدموع، ترى هل كانت دموع الندم والحزن، أم هي دموع التماسيح، وفي كل الحالات فإن الرئيس الأميركي قد وصل الآن إلى نقطة الاعتراف بأن حربه الطويلة في جبال أفغانستان وسهول العراق، كانت فاشلة. وجرت لأسباب ثبت بالدلائل العملية، كذبها، فلا هي حرب قضت على طالبان والملا عمر وأسامة بن لادن والظواهري المتهمين الأساسيين في أفغانستان، ولا هي حرب أقرت السلم والتعايش في العراق، بعد إسقاط النظام البعثي السابق، بل هي فجرت براكين المقاومة العنيفة في البلدين، ومعها فجرت شلالات الدماء والدمار والخراب.
ولم يبق من أهداف الحرب الأميركية في جعبة الرئيس، سوى الهدف الثالث، وهو هدف نشر الديمقراطية، في الدول العربية والإسلامية، إذ لايزال الرئيس يدعي أنه يحارب دفاعاً عن الديمقراطية، مثلما يدعي معاونوه أن أفغانستان والعراق قد تحولتا إلى ديمقراطيات حقيقية، يغار منها الجيران العرب ويحسدها كل المسلمين!
غير أن الاختبار العلمي والعملي لهذا الادعاء، يثبت على الفور كذبه، فلا الإرهاب والعنف، انتهى، ولا الديمقراطية قامت في البلدين. والدلائل كثيرة لا تحصى، ابتداء من نظامي الحكم القائمين «كرزاي كابول وبغداد»، وانتهاء بشلالات الدماء وحرائق الخراب، فضلاً عن النزاعات الطائفية والصراعات القبلية هنا وهناك، الأمر الذي ينفي من الأساس الادعاءات التي تروجها الإدارة الأميركية، ويرددها من خلفها «المتأمركون العرب» وكتائبهم النشيطة!
فكيف إذاً قامت الديمقراطية؟ أو تقوم، في بلد تحت الاحتلال الأجنبي، تمزقه الصراعات الداخلية وتدميه المعارك، وتصدر قراراته السيادية من واشنطن البعيدة آلاف الأميال، بينما يقتل الأخ أخاه، ويتبادلان تدمير البيوت وحرق العائلات وتفجير المساجد، في حين أن «رموز الحكم» الذين أتى بهم المحتل الأميركي، يمارسون «الديمقراطية المزعومة» حتى الآن، من قصور معزولة داخل ثكنات عسكرية أميركية وسط كابول، وفي المنطقة الخضراء ببغداد!
في ظل التورط الأميركي الهائل في الحرب الضروس، ضد الأشباح، ورغبة في الخروج الآمن بقدر الإمكان، من المستنقع الدامي، مارست السياسة الأميركية هوايتها الانتهازية الشهيرة من دون حرج... ففي مقابل تهدئة الأوضاع وتهيئة الظروف «للخروج المشرف» وكسب ود الدول العربية والإسلامية، والضغط عليها لتقديم غطاء محلي وإقليمي للخروج، تواطأت واشنطن بدرجة من الدرجات مع نظم الحكم القائمة التي وصفتها دائماً بالاستبداد والفساد. وخففت من ضغوطها المباشرة وغير المباشرة، عليها لإجراء إصلاحات ديمقراطية، وهي الآن إن ضغطت فهو الضغط الهين اللين ذراً للرماد في العيون!
وبدلاً من أن تقنع أميركا نظمنا الحاكمة بأهمية السير في المسار الديمقراطي الإصلاحي السليم، تمكنت نظمنا من استغلال التورط الأميركي في المستنقع الدامي، فأقنعت واشنطن، كما يبدو بوجهة نظرها هي، وخلاصتها أن «مجتمعاتنا ليست ناضجة وجاهزة لتقبل الديمقراطية وممارستها، الآن، وهي تحتاج إلى تمهيد الأرض لفترة طويلة قادمة، فاتركونا نحكم بما نرى ونطبق الإصلاح بطريقتنا...»!
وأظن أن أميركا، أجلت، وربما تراجعت، عن حكاية فرض الإصلاح الديمقراطي فرضاً، على بلادنا، بصرف النظر عن الهجوم الإعلامي اليومي أو النقذ العلني في الكونغرس، لحكوماتنا، ذلك أن فشل الحرب في أفغانستان والعراق. والفضائح والمذابح التي وقعت وذاعت، والإنفاق المالي الهائل على حرب خاسرة، قد أحدثت ردود فعل حادة داخل المجتمع الأميركي ومؤسساته، فضلاً عن أن أبرز صقور اليمين من «المحافظين الجدد»، أصحاب نظريات شن الحرب، وفرض الديمقراطية بقوة الضغط الأميركي، قد غادروا المراكز الحساسة في البيت الأبيض، أو فقدوا التأثير المباشر على صنع السياسة الخارجية وتوجيهها، أمثال بول وولفوفتيز، وريتشارد بيرل، ومايكل روبين، وديفيد فروم وغيرهم، ولم يبق عملياً من أبرز الصقور سوى نائب الرئيس ديك تشيني يتصدر المسرح الآن على الأقل.
وأظن أيضاً أن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي طرحته واشنطن، وتبنته قمة الثماني الصناعية وحلف الأطلنطي، والمبني على أساس مبادرة وزير الخارجية الأميركية السابق كولين باول، والتي طرحها في ديسمبر/ كانون الأول العام تحت عنوان «الشراكة الأميركية مع الشرق الأوسط»، وفي صلبها فرض ونشر القيم الديمقراطية وتغيير النظم الحاكمة «المستبدة الفاسدة» في البلاد العربية، وتطوير البرامج والمناهج التعليمية والإعلامية والثقافية، هو مشروع ومبادرة، قد دخلا الآن سراديب التخزين المؤقت والتأجيل المرحل، ربما الانتظار لفرصة أخرى، وهو ما أحزن كتائب المتأمركين العرب، وأحبط المراهنين على الضغط الأميركي باسم الإصلاح الديمقراطي.
ومن سوء التقدير وفساد التفكير، ان هؤلاء توهموا أن المبادرة أو المشروع الأميركي بتغيير النظم وفرض الديمقراطية الآن وفوراً، وتحويل حكوماتنا ومجتمعاتنا إلى جنة حديثة، هو مشرع استراتيجي لا تراجع عنه ولا تسويف فيه، وتخيلوا أن أماكنهم القيادية ومواقعهم السلطوية في العهد الجديد، محجوزة بحكم تأمركهم المعلن... ونسوا أو تناسوا أن السياسة فن الممكن، وأن جوهرها المصالح قبل المبادئ، وأن السياسة الأميركية تحديداً هي أستاذة كرسي البرغماتية الحديثة.
غير أن الواقع الذي نراه واضحاً في هذه القضية المتشبعة والمعقدة، قضية الدور الأميركي في خيانة الديمقراطية، هو أن الولايات المتحدة، قد قايضت وبادلت أمراً بأمر، وتواطأت وتراجعت وأجلت، ربما إلى مراحل أكثر ملاءمة، حكاية الضغط المكثف على نظمنا وحكوماتنا لإجراء إصلاح ديمقراطي فوري... ورضيت بديلاً عن ذلك، بإجراءات شكلية وإصلاحات تجميلية، نعرف ويعرفون إنها تبتعد بالحلم الديمقراطي بعيداً، وتباعد بيننا وبينه، وتبقي على تحالف الفساد والاستبداد متمكناً قابضاً يفضل بطش الأمن، على مقاليد الأمور.
وفي الحالين، الضغط الذي مارسته أولاً، ثم التراجع والتواطؤ ثانياً، فإن السياسة الأميركية الحمقاء والبرغماتية المتسرعة، قد خانت ديمقراطيتنا نحن وأجهضت حلمنا الوطني وبعثرت جهود القوى الوطنية، الساعية إلى إصلاح ديمقراطي وطني داخلي بأيدينا وليس بأيدهم، الأمر مكن الدوائر الحاكمة من الانقضاض بشراسة مفرطة على الحراك السياسي والتحرك النقابي والمهني والعمالي، وعلى النشاط المتزايد والمتصاعد لقوى التغيير الجديدة، حتى كاد الإجهاض والإحباط يطولا كل شيء.
وبدلاً من أن تتركنا السياسة الأميركية، بكل تقلباتها، في حالنا، فإنها بعد أن خانت وتواطأت، قد أصابت حسني النية من الذين رأوا في ضغوطها خيراً، بالشبهة وصولاً للاتهام بالعمالة والتبعية، فما بالكم بمن التحق بركبها وشرب من مائها وقبض من مالها وروج لمبادئها!
فإن كان ذلك كذلك، فماذا نقول عن الاختراق الأميركي الشائع والذائع، لكل عصب حساس في هذا الوطن، لماذا تراهن عليه واشنطن وتنفق ببذخ وتجند بعلانية، وتجتهد لتصل إلى النخاع وتخترق العقل والضمير الوطني! نرجو أن نواصل الأسبوع المقبل بإذن الله.
خير الكلام
قال عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفاً
أبينا أن نُقر الذل فينا
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1372 - الخميس 08 يونيو 2006م الموافق 11 جمادى الأولى 1427هـ