قبل رحيل المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي قيض لهذا الشيخ أن يشهد في العقدين الأخيرين من حياته سلسلة تجارب إصلاحية (إحيائية) في الديار العربية الإسلامية. فالنخبة أخذت تكتشف أن الضعف العام لابد من السيطرة عليه إذا أرادت الأمة أن تستمر في التاريخ. وهذا الطموح لا يمكن تحقيقه من دون التوصل إلى اكتشاف أسباب التأخر وتحديد العوامل التي تساعد على نهوض الدولة واستعادة الإسلام مكانته في جغرافية العالم.
جرت محاولات كثيرة قبل الجبرتي لتحديث الدولة ولقيت كل التجارب الفشل بسبب تفاوت النمو بين الكتلتين الدوليتين: الإسلام وأوروبا.
إلا أن الأمة لم تحبط، إذ واصلت نخبها البحث عن وسائل جديدة تعيد لها عناصر القوة لاستكمال الممانعة والتصدي للضغوط العسكرية. المشكلة استمرت من دون معالجة نظراً إلى اتساع تلك الفجوة التاريخية بين الكتلتين، مضافاً إليها أن النخب انقسمت في قراءة التصورات واختلفت بين تيارات «تحديثية» تريد القضاء على «الماضي» وما يمثله من هيئات ورموز وقوى أهلية، وتيارات إصلاحية (إحيائية) تريد استخدام الماضي إطاراً شرعياً يسهل على الدولة إنجاز المهمات وتحقيق التقدم في سياق التنافس مع أوروبا على الزعامة الدولية.
هذا الانقسام في وعي أسس التقدم أسهم في تشكيل تيارات سياسية تحديثية متضاربة وغير متفقة في سعيها إلى تحقيق الشروط الضرورية لسد تلك الثغرات الزمنية التي أخذت تنخر هياكل الدولة والمجتمع. وبسبب هذا الانقسام شهدت الديار الإسلامية تناحرات دموية وانقلابات واغتيالات ومواجهات داخلية عطلت كثيراً إمكانات تسريع خطوات التقدم.
كل هذه المآسي شهدها الجبرتي الذي وصف في تاريخه بعض تلك الوقائع من دون تحليل أو تركيب. فالجبرتي اكتفى بالسرد ولم يأت على ذكر العوامل التي أسهمت في تفجير الصراعات الأهلية. فهو تحدث عن النتائج بصفتها وقائع متتالية ولم يقرأ الأسباب الكامنة وراء تضارب المصالح وتصادم حلقات النهوض في أكثر من مكان.
آنذاك وقبل رحيل الجبرتي بقرابة أكثر من عقدين تعرفت الديار الإسلامية على ثلاث محاولات للإصلاح. الأولى في الجزيرة العربية وارتدت طابع الاحياء الديني بقيادة الحركة الإصلاحية الوهابية - السعودية التي سبقت بداياتها الأولى عهد علي الكبير.
الثانية في مصر وهي تلك التي قادها محمد علي باشا بناء على تجربة علي الكبير وانطلاقاً من إعادة تأسيس الدولة في سياق تصور تصادمي مع المماليك (بقايا عهد سابق).
الثالثة في تركيا (رأس الخلافة العثمانية) قادها السلطان محمود الثاني مستفيداً من تجربة سليم الثالث التي انتهت باغتياله بسبب تسرعه في إصلاح الدولة متجاوزاً بذلك الأسس المادية للتقدم والشروط العمرانية المعرفية التي لابد من أخذها في الاعتبار لقيادة التطور المطلوب.
إذاً، وخلال فترة لا تزيد كثيراً عن عشرين سنة تشكلت في الأمة ثلاث محاولات للتقدم. الأولى في الجزيرة العربية وتمظهرت فيها عناصر قوية من الإسلام الأهلي الذي ينهض من القاعدة (المجتمع) إلى الرأس (الدولة). والثانية والثالثة حصلتا في مصر وتركيا وتشابهتا في تركيبهما واصولهما وتوجهاتهما وأسلوبهما، في بدء التقدم من رأس الدولة إلى المجتمع الأهلي. فالسلطان محمود الثاني استلهم النماذج الغربية وحاول تقلديها وتأسيس ما يماثلها. كذلك لجأ محمد علي باشا إلى تقليد الأوروبيين واستيراد هياكل غربية بغية استخدامها لتحقيق التقدم المطلوب.
المشكلة أن المحاولات الثلاث اصطدمت ببعضها ولم تتحالف لمواجهة الخطر المشترك. والمشكلة أيضاً أن تلك المحاولات التي تعكس مأزقاً وتعبر عن رغبة في التقدم جرت تحت رقابة دولية ووسط صراعات حربية كان من الصعب على تجارب ثلاث جديدة التكوين والتشكيل أن تتصدى لقوة أوروبا وبالتالي أن تصمد في مواجهة الضغوط العسكرية وما رافقها من اختراقات واحتلالات للأطراف والثغور. فالتجارب تواجهت مع بعضها في لحظة انقلاب موازين القوى الدولية لمصلحة أوروبا. وهذا التخالف أسهم في زيادة الضغط واعطى فرصة للدول الأوروبية الكبرى في التلاعب أو التعامل مع هذا الطرف وتقويته ضد الآخر ثم العودة للتعامل مع الآخر وتقويته لاحباط نمو نفوذ خصمه... وهكذا حتى تلاشت قوة الأطراف العربية الإسلامية وصولاً إلى الانهيار.
الجبرتي لم يشهد السقوط الكبير وإنما راقب صعود تلك التجارب وما خلفته من فوضى واضطرابات وصراعات أهلية وعمليات تصفية دموية وصلت إلى حد الاقتلاع والاجتثاث. محمد علي اجتث في مصر بقايا الممايك، كذلك قلده وفعل الأمر نفسه محمود الثاني في اسطنبول حين اجتث بقايا جيش الانكشارية. والأمر نفسه حصل في الجزيرة العربية بعد اغتيال الأمير عبدالعزيز بن محمد بن سعود في العام (هـ)... فالجريمة أعادت الحركة الوهابية - السعودية إلى تجميع نفسها وردت على القوى المناوئة أو المنافسة بفتح باب المواجهات والاصطدامات على مختلف المستويات وفي أكثر من مكان.
هذا التنازع في مراكز القوى الثلاثة يجب فهمه في إطاره التاريخي وتلك العناصر التي أسهمت في تشكيله وتغذيته. فالمحاولات التجريبية حصلت في سياق ضغوط دولية قادتها تلك الاساطيل الحربية والجيوش الأوروبية من خلال تخريب شبكات الملاحة البحرية (خطوط التجارة التقليدية) والاستيلاء على ثغور ساحلية في الخليج وتطويق المجال الحيوي لحركة الاتصالات والمواصلات في المحيط الهندي والبحر الأحمر والبحر المتوسط.
هذه الضغوط أسهمت في تكوين وعي عند النخبة آنذاك يقوم على فكرة إعادة تأسيس الدولة في اطار ضيق يعتمد على فكرة القوة العسكرية لانقاذ الأمة من الانهيار وحماية الهوية (الدينية) من الاندثار. فالخوف من الانكسار العسكري على الحدود والجبهات شجع اتجاهات عند النخبة على ابتكار آليات تكسر العلاقة مع الماضي وتنظر إلى المستقبل في سياق منقطع مع الحاضر. وبسبب ذاك الضغط الموضعي تشكل الوعي في دائرة تحديث الجيش وتحويله إلى قوة تقود التحول الاجتماعي/ الاقتصادي. وأدى اختصار «الحداثة» إلى نوع من العسكرة إلى نشوء تيارات نخبوية تؤمن بنظريات الانقلاب على القديم وتأسيس الدولة من جديد وبدءاً من الصفر.
أسهم هذا النمط من التفكير «الحداثي» في تعزيز الذهنية الانقلابية وكره الموروث وما يمثله من تقاليد متراكمة، الأمر الذي زاد من شقة الخلاف بين الإسلام الاهلي (رجال الدين والهيئات والمنظمات القديمة) وبين دولة تريد إنتاج ثقافة معاصرة تقترب جغرافياً من الغرب الأوروبي وتبتعد تاريخياً عن الإسلام وما يشكله من نماذج وتجارب موغلة في الزمن.
هذا التصادم شجعت عليه الدول الأوروبية المعاصرة لأنها كانت تدرك أن قوة السلطنة بالإسلام. وحين تتحول الدولة من سلطة متحالفة مع الموروث الإسلامي إلى جهاز متخالف مع الشبكات الأهلية فهذا يعني بداية تخريب العمران وفي الآن العجز عن اكتساب مصادر القوة من مكان آخر.
أدى التصادم بين الدولة (الجهاز العسكري) والأهل (الإسلام) إلى تشكيل مراكز متجاذبة احدثت ثغرات في بنية السلطنة وسرّعت في خلخلتها من دون أن ينجح السلاطين أو الولاة في تكوين بديل معاصر يسد تلك الفجوات بين نمو السلطنة وتفوق الغرب. فأوروبا متفوقة وبالتالي فهي الجهة التي تشرف على إعادة تنظيم الدولة سواء في مصر محمد علي أو سلطنة محمود الثاني. فالأول استعان بالدول الأوروبية لإنشاء المؤسسات والمصانع لتحديث الدولة وانتاج حاجاتها العسكرية. والثاني أيضاً استعان بالدول الأوروبية وشركاتها لمساعدته على تطوير أجهزته. وفي الحالين كانت تجارب التحديث خاضعة للهيمنة الأوروبية وتدار ضمن سياق تشرف الشركات والهيئات الأوروبية على تنظيمه وفق شروط قاسية وتحت سقف لا يسمح لمصر أو الأستانة بالتقدم الحقيقي وتحقيق الاختراق في مجال التحديث.
المشكلة إذاً لم تكن في عدم وعي التقدم وإنما في عدم اكتشاف العناصر الحقيقية لذلك الطموح وشروطه الدولية في تحقيق الحداثة. فالحداثة الأوروبية تدرجت زمنياً وضمن شروط جغرافية وتاريخية أسست المعرفة في ضوء تطور العمران، فكانت المعرفة متكاملة ومتوازنة وعلى نسبة تدرج العمران ونموه. بينما «الحداثة» التي طمح لها محمد علي في مصر ومحمود الثاني في اسطنبول كانت مختلة عمرانياً لمصلحة العسكرة (الجيش). فهي قامت مشروطة بالسقف الدولي ومراقبة أوروبياً. كذلك اعتمدت سياسة اجتثاث الماضي واقتلاع القديم وتأسيس حداثة بالقبضة الحديد. وهذا ما استفز الإسلام الأهلي ودفع شبكاته الموروثة إلى الانكفاء أو الانقباض أو المواجهة أو الابتعاد عن الدولة بصفتها قوة بطش لا هيئة مكلفة بإدارة مصالح الناس وتنظيمها.
هذه الانكسارات الأهلية شهد بداياتها المؤرخ الشيخ الجبرتي. فهو رافق تلك الاشكالات بين نزوع الدولة المعاصرة إلى القوة بغية السيطرة الكلية على انقاض العناصر التاريخية للمجتمع. فالحداثة دفعت الشبكات الأهلية إلى الانكماش لمصلحة مؤسسات (مدارس، صيدليات، جامعات، مطابع، مستشفيات، معاهد تعليم، مصانع أسلحة) مستوردة من الخارج ويشرف على إدارتها خبراء أجانب.
تتشابه كثيراً تجربة محمود الثاني مع محمد علي إلى درجة التطابق أحياناً. وهذا التشابه يدل على عدم وجود طريق ثالث آنذاك للتوفيق بين «الحداثة» و«التقاليد» أو بين الدولة والأهل. وبسبب انتفاء عناصر التسوية، أو ما يسميه هيغل في فلسفته «العقل التسووي» الذي يجمع بين النقيضين ويشكل منهما مخرجاً ثالثاً، انتهى الأمر إلى التصادم العنيف بين النقيضين. مثلاً ارتكب محمد علي مجزرة دموية في القلعة اجتثت المماليك وقضت عليهم نهائياً في مصر في العام ( هـ). كذلك فعل محمود الثاني الأمر نفسه حين قضى على جيش الانكشارية وسحقهم نهائياً في العام (هـ).
لجأ محمد علي إلى الاتصال بمعاهد الغرب وايفاد بعثات دراسية للتعليم في تلك الجامعات، كذلك كرر محمود الثاني الأسلوب نفسه بإرسال بعثات دراسية للاستفادة من علوم الغرب. وحاول محمد علي استلهام بعض تلك التجارب المعاصرة في أوروبا من خلال الاتصال أو تقديم عروض للعمل في مصر، كذلك كر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1372 - الخميس 08 يونيو 2006م الموافق 11 جمادى الأولى 1427هـ