العدد 137 - الإثنين 20 يناير 2003م الموافق 17 ذي القعدة 1423هـ

يقول البعض: كثرة المعلومات كقلَّتها

أفق آخر (منصور الجمري) editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

«لقد سافرت ليومين فقط وعدت لأجد تسعا وسبعين رسالة الكترونية، وخمسا وأربعين رسالة صوتية»، قالها أحد المسئولين في إحدى الشركات وهو جالس مع صاحبه لتناول الأكل في مطعم الشركة. رد عليه الشخص الآخر: «لقد حدث لي أكثر من ذلك، فقد غبت يوما واحدا، ورجعت لأجد أكثر من مئة رسالة الكترونية تنتظرني»! ... هذا الحديث أصبح مكررا كثيرا في الشركات التي أصبحت حياتها تعتمد على الإنترنت والهاتف النقال والرسائل الصوتية. والحديث عن عدد الرسائل الإلكترونية والصوتية له جانبان، أحدهما جانب المفاخرة والثاني جانب ما يسمى بـ «ازدياد عبء المعلومات» (Information Overload).

جانب المفاخرة واضح في المسألة، فكل شخص يريد القول إنه مهم جدا وان غيابه عن المكتب يعني الكثير بالنسبة إلى الأعداد الغفيرة من الموظفين والمسئولين وغيرهم ممن يلاحقونه بالإنترنت والهاتف طالبين رأيه وموافقته ومشاركته في الأعمال والقرارات. ولهذا ليس مستغربا أن يلجأ بعضهم إلى مراسلة نفسه إلكترونيا أو القيام بأمر مشابه آخر لكي يستطيع ترديد المقولة ذاتها لافتتاح حديثه مع الآخرين الذين يريد التفاخر أمامهم بأهميته القصوى.

نترك مسألة التفاخر جانبا لمناقشة الجانب الآخر وهو ازدياد عبء المعلومات الكثيرة على الفرد. فالإنترنت له فن خاص في التعامل، وفي تسلّم الرسائل وفي الرد على الرسائل وفي تحليل وتلخيص المعلومات الواردة في الرسائل المرسلة. هناك الكثير من الأشخاص الذين لا يستطيعون الرد على الرسائل الإلكترونية، بل إنهم يتسلمونها ويقرأونها من دون وعي محتواها. آخرون يقومون بمسح الرسائل قبل قراءتها. وآخرون يقومون ببرمجة نظام الكمبيوتر لكي يمنع تسلم الرسائل من جهات معينة ترسل رسائلها باستمرار، بسبب أو من دون سبب.

المشكلة التي كان يعاني الإنسان منها في الماضي هي قلة المعلومات، أما الآن فإن المشكلة هي كثرة المعلومات. وكثرة المعلومات المطروحة أمام الفرد تجعله يغرق في بحر كبير متلاطم لا يدري يقرأ ماذا ويردّ على ماذا ويهتم بماذا؟

الرسائل الإلكترونية والرسائل الصوتية حررت الإنسان كثيرا وجعلته يتعامل مع كثير من الأمور التي كان يعجز عنها في الماضي. أصبح بإمكان الإنسان أن ينظم شئون حياته وأن يدير أنشطته من دون الحاجة إلى السفر الكثير أو اللقاء بالأشخاص الذين يتعامل معهم. ولكن أيضا كثرة الشيء تؤدي إلى خلق مصاعب أخرى.

كثرة المعلومات تساوي قلّتها، لأن الشخص بحاجة إلى قدرات أكبر من الماضي لكي يستطيع الدخول في بحر المعلومات واغتراف ما يريد من ذلك البحر لتلبية حاجته. في الماضي كان المرء يبحث عن المعلومات في صحراء قاحلة ويتعب كثيرا لكي يجد المعلومات التي طلبها. أما اليوم فإن عليه أن يتعلم كيفية السباحة في البحار العميقة، بل ربما عليه أن يتعلم السباحة في مياه المحيط.

عندما كان المرء يلتقي بشخص آخر من أجل العمل فإنه لا يحصل على المعلومات فقط، إنه كان يتعامل مع إنسان، وليس مع آلة أو جهاز. والتعامل مع إنسان يتطلب حضورا في مكان واحد، ويعني تعاطيا عقليا ونفسيا مع الطرف الآخر. فالحضور مع إنسان آخر في المكان نفسه لا يخلق لوحده تعاملا إنسانيا. فقد يسافر شخص على الطائرة ويجلس بالقرب من شخص آخر لمدة عشر ساعات من دون أن يكون هناك تعاطٍ عقليّ ونفسيّ بينهما. السباحة في بحر المعلومات تفتقد هذا التعاطي العقلي والنفسي مع الطرف الآخر ولذلك فإنها تضاعف أضرار «كثرة المعلومات». فلو تسلّمت رسالة إلكترونية من شخص بعيد عنك يقول لك: «لم أستطع القيام بما أردته، لأنني لا أعرف كيفية استخدام البرنامج الذي تحدثت عنه». لو كان هذا الفرد أمامك لكان بالإمكان أن تحل هذه المشكلة في لحظات، ولكن بعده الجغرافي والزمني يمنع مثل هذا التعاطي.

ربما ـ نحن البشر ـ نبحث دائما عن المشكلات والأمراض. فسرعان ما يقدّم لنا الكمبيوتر حل مشكلة قلة المعلومات، وإذا بنا نقول إننا نعاني من «كثرة المعلومات». غير أن هناك الكثير منّا من يجد أن الحديث عن مشكلة كثرة المعلومات وعدم وجود التعاطي الإنساني أمر لا أساس له من الصحة. فعلى العكس من ذلك، فإن المرء بإمكانه أن يتهرب من أي شيء يطلب منه من خلال عدم الرد على الرسائل الإلكترونية والصوتية. ويمكنه دائما أن يلقي اللوم على الكمبيوتر أو الهاتف الذي «تعطل» ولم يسلّم الرسالة. وهؤلاء يقولون إن الكمبيوتر والهاتف النقال والرسائل الصوتية، أفضل الوسائل الحديثة للراحة وعدم السباحة في البحار أو غير البحار

إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"

العدد 137 - الإثنين 20 يناير 2003م الموافق 17 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً