خلافاً لكل مظاهر التشكيك التي رافقت التقارب بين واشنطن وطرابلس الغرب منذ التسوية الحاصلة في مسألة «لوكربي»، اتفق الطرفان، منذ البداية، على ما يبدو، على توقيت التطبيع الكامل لعلاقتهما.
في الوقت الذي كانت فيه عدة دول عربية، مشرقية ومغاربية، تراهن على تردد الولايات المتحدة الأميركية، ما كان، بحسب اعتقادهم، تؤخر افتتاح سفارتها في طرابلس الغرب، كان كبار المسئولين الليبيين يقومون بالرحلات المكوكية بين عاصمتي البلدين، بهدف التثبيت النهائي لمسار العلاقات الثنائية. ويتعلق الأمر خصوصاً بسفير ليبيا السابق في روما وأحد المستشارين المقربين للعقيد القذافي حالياً، إضافة إلى كونه من أبرز مهندسي التقارب مع واشنطن عبدالعاطي العبيدي، كذلك بسفير بريطانيا محمد الزوي، والمسئول النافذ في جهاز المخابرات الخارجية موسى كوسا، والمشرف السابق على شركة النفط الوطنية (نوك) عبدالله سالم البدري، المتعارف على اعتباره من نتاج الشركات النفطية الأميركية، كون أن هذا الأخير قد عمل قبل تطبيق العقوبات على الجماهيرية في الثمانينات، لصالح كوسنورسيوم «أوازيز - الواحات»، الذي يجمع كل من «أميرادا هاس، كونوكو، يلليبس وماراثون أويل». هذه الشركات التي عادت اليوم بقوة إلى حقولها في ليبيا.
إذا كانت وتيرة التطبيع بطيئة بحسب البعض، ذلك لأن الطرفين المعنيين أرادا، من جهة، بناء هذه العملية على أسس صلبة، ومن جهة أخرى، بانتظار أن تفي الجماهيرية الليبية بجميع الشروط التي فُرضت عليها. بمعنى، الالتزام الشامل بمكافحة الإرهاب الدولي، التطابق الكامل نسبياً مع السياسية الخارجية الأميركية، والاندماج الحقيقي باقتصاد السوق، وأخيراً، احترام تطبيق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
كلها من المطالب التي أخذت الوقت اللازم قبل أن تتحقق. هذا ما ردده وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، خلال لقائه منذ أكثر من شهرين عدداً من الصحافيين المغاربة في مقر السفارة الأميركية بالرباط. فإذا كان النظام الليبي قد احترم تماماً التزاماته فيما يتعلق بالشقين الأولين، فإنه يبقى يتردد فيما يختص بتحرير اقتصاده، ذلك على رغم تصريحات الانفتاح الصادرة عن رئيس الوزراء السابق شكري غانم، وعن العقيد القذافي شخصياً، وأيضاً عن نجله سيف الإسلام. آخر هذه التصريحات، تلك الصادرة بُيعد إعلان واشنطن إعادة فتح سفارتها، عن وزير الاقتصاد والتجارة الطيب صافي الطيب، الذي أكد فيها أن بلاده ستفتتح خلال الأيام المقبلة سوق الأسهم. لكن، من دون أن يعطي أية تفاصيل عن الشركات التي سيتم تداول أسهمها فيها، بما في ذلك تلك التي تمت خصخصتها. أما فيما يتعلق بالشق الرابع، أي الديمقراطية وحقوق الإنسان، بقي النظام يناور كعادته، رابحاً للوقت، مع الإعلان باستمرار عن استعداده للانفتاح السياسي المنشود من قبل الشريك الجديد.
عندما دعا القذافي الرئيس التايواني وسط هالات الترحيب على رغم احتجاج صينيي بكين، أراد الزعيم الليبي من وراء ذلك تتويج الانعطافة السياسية التي بدأها قبل سنوات. فالبعض، مثل حسونة الشاوش، أحد المسئولين في وزارة الخارجية، أشار إلى أن طرابلس الغرب تنتظر الآن وقريباً زيارة كوندليزا رايس. أما الآخرون، من كبار المسئولين في القيادة الليبية، فيتحدثون عن مجيء الرئيس بوش شخصياً.
ففي خضم تسارع عملية الثلاثي الجارية، يتابع المسئولون الليبيون خطابهم التقليدي الذي يشددون من خلاله على «الثوابت الواردة في الكتاب الأخضر»، والإشارة إلى أن «الجماهيرية العظمى لم تقدم أية تنازلات مقابل تطبيع العلاقات»، مضيفين «أنهم نجحوا في إرساء تعاون ندي، وخصوصاً على الصعيد الاقتصادي»، ما يدعو إلى الاعتقاد بأن جزءاً كبيراً من الصفقة يقوم على ضمان مصالح الشركات النفطية الأميركية في ليبيا. بمعنى آخر، فإن هذه الأخيرة باتت من الآن وصاعداً المميزة على حساب الأخريات العاملات في حقول هذا البلد. كذلك، فإن هذا التمييز يعني أيضاً أن هامش المناورة لدى «شركة النفط الوطنية الليبية»، القائم حتى عشية إعلان التطبيع الكامل ورفع اسم ليبيا من لائحة الدول الراعية للإرهاب، على تنويع الشركاء، بدأ يضيق حتماً. هذا ما تخشاه الشركات النفطية الأوروبية التي استفادت من فترة العقوبات الأميركية المفروضة على ليبيا لتعزيز مواقعها. ويتعلق الأمر هنا تحديداً بالإيطالية «إيني» والفرنسية «توتال» والإسبانية «ريبسول». فالمفاوضات المتتالية التي اضطلع بها رؤساء الشركات الانجلو - ساكسونية مثل الأميركية «أوكسيدانتال» والبريطانية «بي بي»، بريتيش بتروليوم (التي تزامنت مع تلك التي قام بها مساعد وزير الخارجية الأميركية للشئون الاقتصادية بول سيمونس)، أحيت مجدداً الشكوك والمخاوف لدى الأوروبيين. ويرى دبلوماسي أوروبي في طرابلس الغرب أن «ليبيا ستصبح عاجلاً أم آجلاً تابعة للولايات المتحدة على جميع الصعد وفي كل الميادين تقريباً». ويضيف آخر القول «إن العقود الكبرى التي ستعطى للشركات الانجلوساكسونية في المرحلة المقبلة لن تتأخر هذه المرة». في هذا السياق، يؤكد هذا الأخير أن خيار الليبيين على شراء طائرات مدنية لتجديد أسطول الخطوط الليبية قد وقع على شركة «بوينغ» الأميركية. وينسحب الأمر نفسه على مبيعات الأسلحة بعد رفع العقبة الدبلوماسية الأخيرة. أما فيما يتعلق بالباقي، أي البنيات التحتية التي خصصت لها الحكومة الليبية ما يقارب الـ مليار دولار في السنوات الخمس المقبلة، يؤكد المراقبون أن الشركات الأميركية ستفوز بحصة الأسد.
وهكذا، فإن النظام الليبي الذي أعطى حتى الآن كل شيء واختار معسكره نهائياً، ينتظر الآن التجاوب المنشود من الولايات المتحدة الأميركية.
لقد طلبت ليبيا - التي وصلت عائداتها من النفط نحو مليار دولار في العام ، والتي لاتزال تخفي حجم احتياطاتها من العملات الأجنبية، كذلك فوائضها - من السلطات النقدية الأميركية السماح لها بالاستثمار في أسواقها وشركاتها، طلب كان قد تقدم به في الماضي، ولمرات متتالية خلال زيارته السرية لواشنطن، سيف الإسلام القذافي. فالنعيم والضوء الأخضر رُبطا في حينه بالرفع الكامل للحصار الاقتصادي بما في ذلك إزالة اسم الجماهيرية الليبية من لائحة الدول الراعية للإرهاب. هذا ما أكده لـ «الوسط» أحد مسئولي شركة لافيكو (الشركة العربية الليبية للاستثمارت الخارجية)، الذراع المالية لليبيا. هذا الأخير، الذي يستعد للسفر قريباً للولايات المتحدة.
ومن الرهانات الكبرى الأخرى، بعد عملية الثلاثي الأخير والنهائي، استثمار الشركات النفطية الأميركية في قطاع الطاقة الليبي. ويؤكد الخبراء في هذا الشأن أن استخراج وإنتاج النفط في حقول الغاز غير مستغلة حتى الآن ستكون بمثابة «الهدية» التي ستقدم على طبق من فضة للأميركيين. هذا ما يفسر، بحسب رأي هؤلاء الخبراء، إرجاء الحديث ورفض المقترحات التي غالباً ما قدمتها الشركات المختصة الأوروبية مثل «أجيب» الإيطالية و«غاز دو فرانس».
ضمن التوجه نفسه لتنمية قطاع الطاقة، تأمل الحكومة الليبية من وراء هذا التطبيع الشامل حصول «الشركة الوطنية الليبية» (نوك) على المعدات النفطية المتطورة تكنولوجياً. ذلك، بهدف إعطاء دفع كبير لقدرات إنتاج حقولها، ما خسرته في السابق نتيجة تطبيق العقوبات عليها. ويذكر مسئولو الشركة الليبية في هذا الإطار، أن الجماهيرية لا تنتج، في الظروف الحالية، أكثر من , مليار برميل يومياً، الأمر الذي لا يتطابق مع قدراتها الفعلية وثرواتها المؤكدة، ويضعها - وهي الدولة الغنية بالنفط - في عداد الدول المنتجة الواقعة في أسفل اللائحة التي تعتمدها منظمة «الأوبك».
فزيادة إنتاج ليبيا كي يصل سريعاً إلى حدود المليوني برميل يومياً قبل نهاية كحد أقصى، ستكون له بالتأكيد انعكاسات إيجابية على الأسعار. في التصور نفسه، تفيد المعلومات بأن الشركات النفطية الأميركية التي عاودت نشاطاتها في ليبيا بعد عاماً من الغياب المتواصل، تعتبر أن نفط هذا البلد يمكن له أن يضمن تدفقات جديدة ومهمة خلال العامين المقبلين، ما سيسمح بخفض الأزمة المتفاعلة داخل الأسواق النفطية العالمية.
إن نمو الإنتاج على صعيد الحقول النفطية الليبية، كذلك الاستثمار في قطاع الغاز، لابد أن يعزز مواقع اللوبي التابع لأميركا داخل منظمة الأوبك. فتصريحات وزير الخارجية الليبي عبدالرحمن شلقم خلال الزيارة الأخيرة للرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، لطرابلس الغرب، الأسبوع الماضي، تثبت التناغم التام مع السياسة الأخيرة. فرئيس الدبلوماسية الليبي قد تعمّد التصريح بأنه «لن تكون هنالك أية اتفاقات بين البلدين في المجال النفطي. كذلك، لن تكون هنالك خطط مشتركة لتنسيق المواقف داخل الأوبك». ويضيف شلقم أن «تصريحات تشافيز المعادية لواشنطن تلزمه وحده وليبيا غير معنية بها». دليل إضافي على أبعاد الشراكة الأميركية - الليبية الجديدة.
ويتوقع المراقبون الأوروبيون أن تؤدي هذه النقلة النوعية في العلاقات الليبية - الأميركية إلى تعزيز دور ليبيا في محيطها المغاربي، وانضمامها القريب إلى منظمة التجارة العالمية، إضافة إلى مشاركتها الفعلية، على غرار نظيراتها في اتحاد المغرب العربي، بالمناورات المشتركة مع منظمة حلف شمال الأطلسي. أما فيما يختص بمسار برشلونة الأوروبي، أي الشراكة اليورو-متوسطية، فلم تعد طرابلس الغرب متحمسة لهذا الإطار، ما سينعكس سلباً على المصالح الأوروبية مستقبلاً في ليبيا
العدد 1365 - الخميس 01 يونيو 2006م الموافق 04 جمادى الأولى 1427هـ