يتردد على ألسنة البحرينيين قول ساخر مؤداه إن البحرين دولة صغيرة إلا أنها ذات مشكلات وأزمات بحجم قارة من القارات. وفي المقابل، فإننا كثيراً ما نرى سخرية الآخرين من غير البحرينيين؛ وذلك حين يعرفون أن مساحة البحرين تزيد بقليل عن (711 كيلومتراً مربعاً)، وأن مجموع سكانها - المواطنين والمقيمين - لا يزيد عن (724,000 نسمة). وتعظم السخرية إذا ما تمت المقارنة بين مساحة البحرين ومساحة دول شاسعة مثل روسيا والصين وكندا والولايات المتحدة والبرازيل، أو قورن عدد سكانها بعدد سكان دول مليارية ومليونية مثل الصين (1,304,196,000 نسمة) والهند (1,065,462,000 نسمة) وإندونيسيا (219,883,000 نسمة)!
والحق أن محدودية المساحة ربما تكون من بين العوامل التي تزيد من تأزم الأوضاع في البحرين، ويظهر ذلك في شح الأراضي والكثافة السكانية الهائلة (فالبحرين خامس دولة في العالم من حيث الكثافة السكانية)، إلا أنها بالتأكيد ليست أصل المشكلة بدليل أن دولاً مثل المالديف ومالطا وموناكو وغيرها لا تعاني من مثل هذه الأزمات وهي أصغر مساحة من البحرين.
وأحاول هنا أن أرصد ما أتصور أنه واحد من بين العوامل المؤسسة للأزمات في البحرين، وسأرصده من خلال تأمل «تاريخي» لأخلاق أهل البحرين وما طرأ عليها من تغيرات جذرية بحكم متغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية متداخلة.
ولا أملك هنا إلا أن أقول إنه من نعم الله على البحرين أن أزماتها قد تفجرت بعد أن نزعت طبائع الناس إلى لين العريكة وسماحة الخلق والانبساط والبشاشة والحياء والتواضع. ولولا ذلك لكان الوضع كارثياً حقاً، وإلا هل يتخيل أحد حال البلاد فيما لو بقي أهل البحرين على ما كانوا عليه من بأس وفتك شديدين؟ والسؤال الأهم هو كيف انقرض هذا الأصل البعيد للبحريني شديد البأس والفتك؟ وكيف حل محله البحريني الطيب السمح لين العريكة؟ وإلى متى سيصمد هذا الجيل الجديد من البحرينيين؟
يذكر الشيخ محمد علي آل عصفور أن «الرجل من أهل البحرين في ذلك الزمان يعد بألف فارس». وقد عرف عبدالملك بن مروان هذه الطبائع في أهل البحرين وما هم عليه من شجاعة وقوة بأس في الحروب، ولهذا عمل، بعد أن ظفر بالبحرين، من أجل أن ينزع من نفوسهم هذه الطبائع، وعاهدهم بهذا العهد: «طيبوا نفوسكم فإني أترككم على دينكم ولكم عندي ما أردتم، ولكن أريد منكم أن تكونوا في جزيرتكم هذه ولا أحد منكم يحمل السيف ولا العصي ولا يشد وسطه إلى حرب أبداً، ولا أحد ينقل السلاح ولكم علي ألا آخذ منكم شيئاً من خراج بلدكم، ولا أتعرض لكم بعد سنتي هذه، وهذا الشرط بيني وبينكم، وعلي في ذلك عهد الله وميثاقه». فحالف أهل البحرين على ذلك، ومنذ تلك اللحظة لانت عريكة أهل البحرين و«لم يشدوا أوساطهم بعد ذلك إلى حرب، ولم يقتتلوا إلى يومنا هذا». هذا هو الأصل البعيد والمهجور لأخلاق أهل البحرين وطبائعهم.
ويمكن لأي امريء أن يشكك في هذا التفسير الذي يذكره الشيخ محمد علي آل عصفور في كتابه عن البحرين «عيون المحاسن ومحاسن أعلام العلماء والشعراء» والذي انتهى من تصنيفه في العام 1311هـ (1901م). إلا أن أحداً لا يستطيع أن يشكك فيما عليه أهل البحرين اليوم من لين في الطبائع وسماحة في الخلق، وفي هذه الطبائع والأخلاق يكتب الشيخ إبراهيم المبارك بلغة المتيقن من أن «خواص أهل البحرين التواضع وطلاقة الوجه والبشاشة والانبساط والسخاء والحياء والضيافة ولين العريكة والتوقف عن الفتك وغلبة خيرهم على شرهم وحلمهم على طيشهم» (حاضر البحرين، ص25).
واليوم لا سبيل لأن تنزع طبائع أهل البحرين إلى ما كانت عليه من قوة بأس وفتك وشدة، فقد غطت أخلاق السماحة والبشاشة والطيبة ولين العريكة على ذاك الأصل البعيد للأخلاق البحرينية المهجورة. ولكن ما يعيشه الناس اليوم، وفي ظل تأزمات متعددة المستويات، قد يحفز على استثارة أخلاق سلبية طارئة ونقيضة للأخلاق المهجورة (البأس والفتك) والأخلاق المهيمنة اليوم (السماحة ولين العريكة)، وأقصد بهذه الأخلاق الطارئة أخلاقاً من قبيل الحقد الشخصي والجماعي والحسد والتباغض وحب المنافسة والأنانية والانتهازية. والسبب أن «الخيرات» التي يتنافس الناس عليها اليوم خيرات قليلة ومحدودة، ما يعني أن التنافس بينهم سيكون شديداً. ومن هذا التنافس الشديد على «خيرات محدودة» ستتبدل طبائع الناس وتتغير أخلاقهم. وأكثر ما يخشاه المرء أن يأتي ذلك اليوم المشؤوم الذي سيحل فيه البحريني الحقود الحسود الانتهازي محل البحريني السمح السخي البشوش، تماماً كما حل هذا الأخير محل سلفه البعيد البحريني شديد البأس والفتك!
في السابق كانت معظم القرى والمدن مكتفية ذاتياً بما تحصل عليه من صيد الأسماك واللؤلؤ وزراعة النخل والفواكه، وما كانت البحرين تعيش أزمة «الخير المحدود». إلا أن هذه المهن تضعضعت، وهذه الخيرات تضاءلت بعد كساد تجارة اللؤلؤ وضعف الزراعة، فتغيرت بذلك مواقع «الخيرات»، وتركزت، في بادئ الأمر، في شركة نفط البحرين، ثم في وظائف الحكومة بعد تأسيس الدوائر الرسمية. وبعد سلسلة طويلة من التحولات وصلنا اليوم إلى مرحلة صار غاية ما يتنافس الناس عليه هو حفنة من «ترقيات»، وكومة من «الوظائف»، ودزينة من الوحدات والقسائم السكنية والقروض الإسكانية، وحزمة من بعثات وزارة التربية وغيرها. وكل هذه «خيرات محدودة» في الأصل.
وبما أن هذه الخيرات محدودة وتتضاءل يوماً بعد آخر، فمن المتوقع أن يزداد التنافس عليها يوماً بعد آخر أيضاً، وخصوصاً أن عدد سكان البحرين في ازدياد ويتوقع أن يصل هذا العدد إلى (1,270,000 نسمة) في العام 2050. وفي الانثروبولوجيا مفهوم يعرف بـ «الخير المحدود» dooG detimiL، وهو مفهوم صاغه جورج ماكيلاند فوستر (عالم أميركي من مواليد 1913 متخصص في الانثروبولوجيا الثقافية) في محاولته شرح السلوك الشخصي والتوجهات القيمية لمجتمعات الفلاحين في أميركا الوسطى في العام (1965). وخلاصة هذا المفهوم أن المجتمع الذي يرى أن طيبات الحياة في أرضه قليلة، وخيرات العيش فيها محدودة، فإن مؤسساته الاجتماعية وسلوك أفراده وقيمهم وأخلاقهم الشخصية تميل جميعها إلى نمط يخدم هذا التصور، ويتناسب مع هذا الوضع، وتكون النتيجة أن أفراد هذا المجتمع يتسمون، في الغالب، بفردية متطرفة وحب المنافسة والحقد والحسد الشخصيين؛ لأن الكل يسعى إلى حيازة ما استطاع من هذه «الخيرات المحدودة» لنفسه ولأهله وجماعته.
وإذا ما انطبقت هذه النظرية على المجتمع البحريني فإن النتيجة ستكون تغير طبائع أهل البحرين وتبدل أخلاقهم من التواضع وطلاقة الوجه والبشاشة والانبساط والسخاء والحياء والضيافة والكرم إلى نقيضها من تكبر وفظاظة وضيق الصدر وقلة الحياء والبخل والحسد والحقد والانتهازية. فهل حقاً هذا ما فعله «الخير المحدود» في طبائع أهل البحرين وأخلاقهم؟
يمكن التحقق من هذا في علاقة الموظفين فيما بينهم في القطاع الخاص كما في المؤسسات الحكومية، وخصوصاً وقت التنافس على ترقية معينة، ويمكن التحقق منه في ازدياد الأنانية والتنافس الشديد بين الناس حتى على فتات الأشياء التي توزع في المهرجانات والاحتفالات العامة، ويمكن التحقق منه كذلك فيما نراه من انعدام الأخلاق أثناء السياقة، وفي تزايد فئة الانتهازيين والأنانيين.
ومع هذا فإن خطورة هذا «الخير المحدود» ستكون أعظم فيما لو كان التنافس بين أهل البحرين بصورة جماعية لا فردية، أي فيما لو انخرط البحرينيون في التنافس على هذه «الخيرات المحدودة» لا فرادى بل جماعات وطوائف. فعلى المستوى الشخصي يمكن للوطن أن يحتمل طبائع التنافس الشخصي وكذلك الحقد والحسد بين أفراده، إلا أن الوضع يكون قد بلغ مرحلة من التأزم الحاد وغير المحتمل حين يصبح التنافس جماعياً بين الطوائف؛ لأن النتيجة عندئذ ستكون طبائع وأخلاقاً موزعة جماعياً على الطوائف، وسيكون هناك حسد جماعي وحقد طائفي متبادل. وتظهر هذه الطبائع والأخلاق حين يكون هناك سوء توزيع لهذه «الخيرات المحدودة» وفائضها، فبدلاً من التوزيع العادل والمتكافئ لتلك الحفنة من الترقيات والوظائف والبعثات والوحدات والقسائم والقروض، يتم توزيعها على الناس بحسب انتمائهم الطائفي والمناطقي، أو بحسب مقاييس سياسية أخرى (الولاء ودرجته). فهل هذا ما نحن عليه اليوم أم إنه افتراء وكذب وتخرص؟ هل هناك حقاً سوء توزيع لخيرات محدودة أصلاً؟ وهل البحريني الحقود الحسود الانتهازي (على المستوى الشخصي والجماعي) هو نتيجة هذا السوء في التوزيع لتلك «الخيرات المحدودة»؟
ربما نكون مبالغين في هذه الأسئلة إلا أنه مما لا شك فيه أن ضغوط «سوء التوزيع للخيرات المحدودة» قد أثقلت كاهل الناس بتبعات ضخمة ولا أحد يعرف إلى متى ستصمد أخلاق الطيبة والسماحة والسخاء ولين العريكة أمام ضغوط «سوء التوزيع» وقانون «الخير المحدود»؟
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1362 - الإثنين 29 مايو 2006م الموافق 01 جمادى الأولى 1427هـ