يزعم الأنثروبولوجيون أن تجربة الحياة لا تعاش من دون «إطار عقلي» يتوسط بين الإنسان وتجربة الحياة، ويتوسل الإنسان بهذا «الإطار» من أجل فهم هذه التجربة وتفسيرها. ما يعني أن المواجهة المباشرة بين الإنسان وتجربة الحياة مواجهة مستحيلة، فلابد من «إطار عقلي» يتوسط هذه المواجهة. ويكون هذا الإطار هو الدين أو الفلسفة أو العلم أو الفن أو التاريخ. وحين تنعدم هذه الأطر/ الأنظمة الثقافية فإن الإنسان يعيش بنمط «الحس المشترك» common sense بما هو إطار عقلي أولي وطريقة معينة للنظر إلى الحياة وعيشها.
وفي الحالات العادية فإن الناس يتمثلون هذه الأنظمة الثقافية بصورة مجزأة ومتقطعة، وفي معظم الأحيان يعيش الناس بهذه الطريقة حتى الرهبان منهم، حتى مجانين الفن أو العلم، وكذلك المأخوذون بالفلسفة حد الاستغراق.
غير أن ما تفعله الأدلجة - للدين والحداثة معاً - هو أنها تصدر النظام المؤدلج إلى الواجهة، وتمده بالقوة التي تجعل حضوره مركزياً في حياة الأفراد، بل يكون هو محور وجودهم الذي يعيشون به وفيه ومن أجله. ما يعني أن العيش المجزأ والمتقطع لا مجال له أمام قوة نظام ملك على الناس كل وجودهم، واستغرقهم في جميع لحظات حياتهم وجوانبها المتنوعة. ونظام كهذا لا يقبل المزاحمة، فوجوده وجود كلي وشامل ومطبق على حياة الأفراد، وأي تشقق في هذا الحضور سيكون تهديداً لوجوده أصلاً.
وحين يكون النظام الثقافي موضوعاً للأدلجة، فإنه يعمم حضوره الكلي، ويعمق - في المقابل - ارتهانه للايديولوجيا التي تحمل على عاتقها مسئولية تبرير حضوره الكلي المعمم، وإضفاء المشروعية والشمولية عليه، وأخيراً دمج الآخرين في هويته. وهذه وظائف 3 تقوم بها الايديولوجيا بقصد وتصميم يصلان حد التعصب والتطرف كما هو الحال في ايديولوجيا الإسلام السياسي/الأصولية الإسلامية، وايديولوجيا الحداثة/الأصولية الحداثية سواء بسواء.
يستعمل مصطلح الحداثة ليعبر عن التحول الواسع الذي عرفه الغرب ابتداء من القرن السادس عشر، وأخذ معناه الكامل في القرن التاسع عشر. وهو تحول جذري في كل شيء أدى إلى ظهور «نمط حضاري خاص يتعارض مع النمط التقليدي، أي مع كل الثقافات السابقة عليه أو التقليدية، فمقابل التنوع الجغرافي والرمزي لهذه الأخيرة، تفرض الحداثة نفسها على أنها شيء واحد متجانس، يشع عالمياً انطلاقاً من الغرب».
وتحول بهذه المواصفات لابد أن يخضع للأدلجة، لأن استمراره من دون أدلجة يعني التسامح مع الأنظمة الأخرى - كالدين مثلاً - والقبول بمزاحمته. وهذه أخلاقيات بعيدة عن الحداثة كنظام ثقافي كلي الحضور وواسع الانتشار كايديولوجيا معممة ومغلقة.
ولم تكن الحداثة مجرد الخضوع لأخلاقيات العقلنة والعلمنة في السياسة والاقتصاد والدين فحسب، بل إن اكتمال الحضور الكلي للحداثة لا يتحقق إلا في الحداثة كممارسة اجتماعية ونمط معين من أنماط الحياة، أو ما أسماه يورغن هابرماس بـ «التنظيم العقلاني لكل ممارسات الحياة الاجتماعية اليومية». وهذا يعني أن «الحداثة نظام كامل ومتكامل»، وعلى الفرد أن يلتزم بهذا النظام في كل حياته، لأنه نظام لا يعيش الفرد من دونه، كما أن الفرد يستغني به عن غيره من أنظمة ثقافية أخرى. والحق أن هذه طبائع الايديولوجيا و«الدوغما». ما يعني أن الحداثة لم تعد حداثة، بل تحولت إلى أصولية حداثية. فإذا كانت عبقرية الحداثة أنها تمكن، بحسب ماكس فيبر، في علمنة العالم ونزع طابعه السحري ما أفقد الأديان والرؤى التقليدية للعالم قوتها ومشروعاتها، فإنها تفقد هذه العبقرية حين تتحول إلى أصولية وايديولوجيا دوغمائية راسخة ولا سبيل إلى تغييرها وتجديدها. كان كانط يقول إن التنوير هو تحرير الإنسان من وصاية يفرضها على نفسه، ما يجعله عاجزاً عن استخدام فهمه من دون توجيه خارجي، ولا خلاص من هذا العجز إلا بحرية الفكر و«الاستخدام العمومي للعقل في جميع الميادين»، ولهذا يخلص إلى أنه من المستحيل استحالة مطلقة أن تفرض البشرية على نفسها حكماً كنسياً يقوم على الإيمان بعقيدة ثابتة. وإذا ما فرض مثل هذا الحكم فإنه سيكون حكماً تافهاً ليس له أية فعالية، لأنه يتعارض مع «الطبيعة البشرية» التي يقوم مآلها على التقدم في التنوير. وبالمثل أيضاً تصبح الحداثة مستحيلة إذا تحولت إلى ايديولوجيا ودوغما راسخة وثابتة.
وفي المقابل فإن أدلجة الإسلام حولت الإسلام إلى أصولية دينية. وبحسب شعار «القرآن دستورنا» الذي قام عليه فكر الإخوان المسلمين، فإن الإسلام أيضاً «نظام كامل ومتكامل» للحياة. وهذا مبدأ أخذت به كل تيارات الإسلام السياسي السنية والشيعية سواء بسواء. وصار من اللازم أن يحتكم الإنسان المسلم في حياته ورؤاه الكونية لنظام إسلامي كامل وكلي الحضور، إذ لا يحتاج المسلم إلى أي نظام آخر، ومتكامل بحيث لا تتعارض الأنظمة الفرعية مع النظام العام، بل يكون «اقتصادنا» متناغماً مع «فلسفتنا»، ونظامنا السياسي والأخلاقي والاجتماعي، ومناهجنا، وطرائق تفكيرنا، وأساليب حياتنا.
هذه عقيدة قام عليها فكر الإخوان المسلمين الذي كان بمثابة «الرحم الذي خرج منه الإسلام السياسي الحديث»، وهي عقيدة لا سبيل إلى تطبيقها على الأرض إلا بقيام «دولة إسلامية» تلتزم في حكمها بالنظام الإسلامي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً. وإذا كانت ايديولوجيا الحداثة تقوم على التمييز والفصل والقطيعة بين مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية (الاقتصاد منفصل عن الثقافة، والدين منفصل عن السياسة)، فإن مشروع الإسلام السياسي يتعارض مع هذه الحداثة، لأنه مشروع «يصهر في كتلة واحدة كاملة وتامة المجتمع والدولة والثقافة والدين الذي منه ينبع كل شيء».
وعلى هذا الأساس فإن أدلجة الدين تتمثل في حركتين: الأولى هي تحويل الدين إلى ايديولوجيا شمولية تنسحب على كل شيء في الدنيا والآخرة. والثانية هي حمل الأفراد على تمثل هذه الايديولوجيا الشمولية باستغراق تام في كل حياتهم. وكلا الحركتين تنفران من تجاور الأنماط والسلوكيات والتصورات، بل تنظران إليه على أنه نفاق وسلوك ممجوج مرذول منبوذ.
وبهذه الأدلجة حولت حركات الإسلام السياسي الإسلام إلى «دوغما» أي مجموعة من الاعتقادات والمعاملات والسلوكات التي على المرء أن يمتثل لها من دون تفكير أو مساءلة، وبصورة كلية مطلقة لا تعرف الفجوات، لأن الفجوات قد تسمح بأن تكون الدوغما في وضع المزاحمة، وهذا محذور ينبغي التنبه له والمبادرة إلى علاجه بسد كل الفجوات والثغرات. ولهذا يسخر مؤسس جماعة الإخوان المسلمين من إنسان يجمع في يومه بين أكثر من نمط، يقول: «أولست تضحك عجباً حين ترى رجلاً من رجال الفكر والعمل والثقافة في ساعتين اثنتين متجاورتين من ساعات النهار ملحداً مع الملحدين وعابداً مع العابدين!». هذا، إذاً تجاور منبوذ ويبعث على الضحك والسخرية، وهو هنا علامة على النفاق، والحق أنه علامة على ما تعرض له الدين من أدلجة. وهذه الأدلجة هي ذاتها التي حملت علي شريعتي على السخرية من تجاور الأنماط إبان الشاه عباس، وذلك حين «اتفق أن تطابق يوم عاشوراء مع يوم النيروز»، فصدر الأمر «بأن يكون اليوم يوم عزاء وعاشوراء، ومن ثم وفي يوم التالي يصدر أمر آخر بالاحتفال بالنيروز». وما لا تستطيع الأدلجة تصوره هو كيف تمكن هؤلاء من الحزن في يوم، والفرح والسرور في اليوم التالي.
وتذكر هذه الإشارة بحكاية عبدالله الغذامي مع إمام مسجد جامعة الملك عبدالعزيز في العام 1987، حين كان الخطيب يتحدث «عن الحداثي الذي يصلي مثل صلاتنا... وهو مخرب ومغترب وعلماني». والحداثي المقصود هنا هو عبدالله الغذامي، وإن كان مضمون الكلام يمكن أن ينطبق على كل «حداثي يصلي».
يعبر «الحداثي الذي يصلي» عن تحول في وضع الإنسان المسلم اليوم، وهو تحول عجزت أجهزة الفهم التقليدية المنمطة عن فهمه فضلاً عن تفسيره، لأن هذه الأجهزة لا تعرف إلا شكلاً واحداً من أشكال الوجود الخالص لنظام ما، فإما تكون مسلماً وإما تكون حداثياً. أما أن تكون مسلماً حداثياً فهذا جمع لا يستقيم، بل هو شرخ في التفكير، وفصام في الشخصية.
وهكذا، قادت أدلجة الإسلام والحداثة معاً إلى فهم النظام بما هو أصولية و«كل متماسك» و«نظام كامل ومتكامل» وخال من التعارضات والتشققات. وكما تبرر الأولى لنظامها وتضفي عليه المشروعية وتسعى لدمج الأفراد في هويته بأساليب «تجنيد الأتباع»، فإن ايديولوجيا الحداثة تقوم بالوظائف نفسها، فهي تبرر لنظام الحداثة بـ «رجعية الإسلام» وتخلف بنى الحضارات التقليدية، وتضفي عليه المشروعية المطلقة كنظام ثقافي منقذ ومخلص، وهي كذلك لا تفتقر إلى أساليب «تجنيد الأتباع»، ورفض الآخر المختلف أو دمجه في هويتها.
إننا إذاً أمام أصولية مغلقة وايديولوجيا كلية. وهذا شيء والنظام الثقافي شيء آخر، فأدلجة الإسلام لا تتطابق مع الإسلام، بل هي أسلوب جديد من أساليب التدين، كما أن أدلجة الحداثة ليست هي الحداثة، بل هي أسلوب جديد من أساليب الحداثة، وكلا الأسلوبين يقوم على فرض قوة النظام ومد حضوره الكلي المعمم وصيانته من التعارضات والفجوات.
ولا يسمح سياق الأدلجة هذا إلا بأسلوب مخصوص في تبني الإسلام والحداثة، فإما أن يكون المرء مسلماً خالصاً، وإما أن يكون حداثياً خالصاً، أما «حداثي يصلي» فهذا أسلوب في الحياة لا تعترف به أدلجة الإسلام وأدلجة الحداثة سواء بسواء، لأن ما يفعله الحداثي الذي يصلي هو أنه يقوض حضور الأنظمة الكلية، ويربك أجهزة الفهم والتفسير التقليدية والمنمطة. فالإسلاميون يخرجونه عن دائرة الإسلام، وهذا ما فعله خطيب مسجد جامعة الملك عبدالعزيز حين أخرج «الحداثي الذي يصلي مثل صلاتنا» من دائرة الإسلام لكونه «مخرباً ومغترباً وعلمانياً». وبالمثل فإن الحداثيين يخرجون هذا الحداثي من دائرة الحداثة لأنه يعيش «تناقضات صارخة لا يمكن فهمها» بين واقعه الحياتي كمتدين، وبين خطابه كحداثي يخطب باسم فوكو وهايدغر وتودوروف وبارت وإدوارد سعيد ودريدا وآخرين.
تلك صدمة سببها «الحداثي الذي يصلي» لأجهزة الفهم المنمطة التي لا تفهم ظاهرة كهذه إلا على أساس أنها علامة على تناقض وشرخ ونفاق وفصم في شخصية «الحداثي الذي يصلي». والفصم اعتلال نفسي، ولا سبيل إلى شفائه إلا بترياق النظام كلي الحضور: الأصولية الحداثية أو الأصولية الإسلامية. أما النفاق فاعتلال أخلاقي يحمل المرء على أن يعلن غير ما يبطن، فإن كانت الحداثة معلنة فالتدين محفوظ مستور، وإن كان التدين معلناً فإن الحداثة هي المحفوظ المستور. ولهذا فإن «الحداثي الذي يصلي» شخصية مريبة وتبعث على الشك وتوخي الحذر كأية شخصية منافقة!
غير أن ما تعجز عن فهمه أجهزة الفهم «الأصولية» والمنمطة هو أن «الحداثي الذي يصلي» يعبر عن ظاهرة جديدة تكتسب مشروعيتها في سياق ما بعد الحداثة كحساسية جديدة تقوم على التجاور والاختلاط والتداخل والهجنة والكثرة. ولا ينبغي أن ننسى أن ما بعد الحداثة، في أهم جوانبها، هي بعث لأساليب حياة متنوعة، حداثية وسابقة على الحداثة، يتم استعمالها وعيشها بشكل مختلف لا ينتمي إلى مجال الإسلاموية ولا الحداثوية من حيث ايديولوجيا كلية ودوغما مغلقة لا تقبل التجاور. وفي سياق ما بعد الحداثة لا يوجد أي مبدأ كلي لتنظيم الحياة الاجتماعية سوى التسامح والتجاور والتعايش. يقول ليبوفتسكي: «كل الاذواق وأنواع السلوك يمكن أن تتعايش من دون أن يستبعد أي منها الآخر، كل شيء يجب اختياره بحسب الرغبة، الحياة البسيطة... إلى جانب الحياة شديدة التعقيد»
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1357 - الأربعاء 24 مايو 2006م الموافق 25 ربيع الثاني 1427هـ