العدد 1356 - الثلثاء 23 مايو 2006م الموافق 24 ربيع الثاني 1427هـ

موسم الحج إلى البيت الأبيض

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

بدأ موسم السعي إلى الحج إلى البيت الأبيض الأميركي، في تسابق غريب تتميز به منطقتنا، ربما بحكم ما تزدحم به من المشكلات والصراعات، وكذلك المصالح الاستراتيجية الأميركية الحيوية، والمزاحمات العربية - وخصوصاً - للالتحاق بالولايات المتحدة، حليفاً وصديقاً، أو حامياً وضامنا.

ولقد بات معروفاً للعامة، أن الهيمنة الأميركية على المنطقة، أصبحت شاملة كاملة، بعد أن دخل الكل بيت الطاعة والانصياع لهذه القوة العظمى الجبارة، التي ترفع شعاراً وحيداً، هو من ليس معنا فهو ضدنا، من ليس حليفنا بالضرورة عدونا.

وفي ظل هذه الهيمنة الشاملة الكاملة، لم تعد أميركا هي التي تسعى وتشقى وتبذل كل الجهود، لاسترضاء دولنا، لتكسب صداقتها وتحالفها، لكن الذي يحدث هو العكس، إذ نسعى نحن بقضنا وقضيضنا، لاسترضاء أميركا، وطلب الرضا السامي، والحج موسمياً إلى البيت الأبيض، بينما ساكنه يترفع ويتعالى، يرفض طلب الزيارة ومسعى الحج أحياناً، ويتمنع ويتباطأ في الموافقة والاستقبال أحياناً أخرى... وفي الحالين هو صاحب الأمر والنهي، المعتلي وحده عرش الاستعلاء والاستغناء!!

الاستثناء الوحيد، يتعلق بالضرورة بـ «إسرائيل»، برباط مقدس على رغم تغير الظروف والصراعات والرؤساء والمسئولين هنا وهناك!

ولقد صار من التقاليد الأميركية الإسرائيلية الراسخة والمتوارثة، أن يبادر رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد، إلى الحج إلى البيت الأبيض الأميركي، مثلما يبادر أي رئيس أميركي جديد فور انتخابه، بتأكيد ما أصبح يعرف في الأدبيات السياسية بـ «العلاقات الاستراتيجية بين أقوى حليفين، أميركا و«إسرائيل»». لا يستطيع أحد أن يشذ عن القاعدة وإلا!!

بالأمس (الثلثاء)، التقى الرئيس جورج بوش الابن، في البيت الأبيض بواشطن، رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد ايهود اولمرت، في أول «طلعة» خارجية له، لأن هذا هو التقليد الراسخ، واليوم (الأربعاء)، يعقد الكونغرس الأميركي، بمجلسيه، النواب والشيوخ، اجتماعاً مشتركاً، لاستقبال أولمرت والترحيب به، والاستماع إلى خطابه السياسي والافتتاحي، التالي مباشرة لخطابه في الكنيست، بعد تشكيل حكومته الائتلافية... وبالمناسبة فإن مثل هذه الاحتفالية المشتركة لمجلسي النواب والشيوخ الأميركيين، لا تحدث كثيراً، إلا لأقرب الأصدقاء والحلفاء، من عينة طوني بلير وشارون ونتنياهو، في حين أننا لا نذكر أن ذلك حدث مع أي زعيم عربي، مهما علا شأنه، ومهما كانت علاقات تحالفه مع الصديق الأميركي!

ويتصور البعض، أن هذه مجرد شكليات بروتوكولية، لكننا نثق بأن ما يجري للقادة الإسرائيليين خصوصاً، سياسة مقصودة ومتعمدة، تدخل في باب الالحاح الدائم على «التحالف الوثيق بين دولتين متشابهتين من حيث النشأة القائمة على الهجرة»، وكذلك من حيث المعتقد الديني المتنامي في الولايات المتحدة، بفضل تنامي ما يعرف بمنظمات «المسيحيين الصهيونيين»، الذين يمثلون الآن القاعدة الصلبة للحكم في الولايات المتحدة!

وما أن يحج رئيس الوزراء الإسرائيلي، إلى البيت الأبيض، ويلتقي نواب وشيوخ الكونغرس، وقادة اللوبي اليهودي والمنظمات القوية النافذة، حتى تنطلق وسائل الإعلام الجبارة في حملة الدعم والمساندة، لترسيخ المفهوم المقدس، في أعماق الشعب الأميركي، بالتزامه تاريخياً ودينياً وسياسياً، بأمن «إسرائيل» وبقائها قوية قادرة على دحر أعدائها العرب مجتمعين، وهو أمر لم يستطع العرب تغييره أو تعديله، على رغم بذلهم الغالي والرخيص لاسترضاء أميركا!!.

وفي حين يسعى قادتنا إلى الحج إلى البيت الأبيض، طمعا في الرضا ورغبة في تبادل المصافحات والابتسامات المظهرية مع الرئيس الأميركي، لتنشر صورهم في الصفحات الأولى، وتلح في تكرارها شاشات التلفاز، ربما من باب الاستهلاك المحلي، فإن قادة «إسرائيل» حين يحجون إلى البيت الأبيض، فإنهم يقبضون الثمن مقدماً، ويضعون أولوياتهم السياسية والعسكرية والاقتصادية، على رأس جدول الأعمال المتفق عليه مسبقاً، ومن ثم يخرجون بنتائج محددة، وبإعادة تأكيد الالتزام الأميركي بالأمن الإسرائيلي!

وها هو أولمرت في الولايات المتحدة، حاملاً جدول أعماله، ضامناً مسبقاً الموافقة الأميركية، أو حتى عدم الممانعة، على مشروعه السياسي، وخطة عمله خلال السنوات المقبلة، خليفة لواحد من أهم وأخطر قادة «إسرائيل»، وهو ارييل شارون، المعلقة حياته الآن بين الحياة والموت، ربما الأكثر تردداً على واشنطن خلال سنوات حكمه، ليس طلباً لحفلات الاستقبال، ولكن اتفاقاً على نوع ومدى المساعدات الأميركية لـ «إسرائيل»...

أولمرت في الولايات المتحدة الآن، ليكسب الدعم الأميركي «المعهود» لمشروعه الاستراتيجي، المسمى «خطة الانطواء» القاضي بترسيم الحدود الجديدة للدولة اليهودية «لأول مرة تاريخياً» بنحو العام 2008، والفصل بين «إسرائيل» والفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، بالإبقاء على المستعمرات الاستيطانية اليهودية الكبرى في الضفة الغربية والقدس وغور الأردن، والتخلي عن تلك المستوطنات الصغيرة، المسماة بالعشوائية، نظراً إلى صعوبة ضمها إلى «إسرائيل»، وعدم القدرة على حمايتها والدفاع عنها، في مواجهة الهجمات الفلسطينية، أو الكثافة السكانية الفلسطينية...

ولعلنا نذكر أن أولمرت قال في خطابه الافتتاحي بالكنيست قبل أسابيع، جملة ذات مغزى، وهي «اننا نبدأ مع هذه الحكومة الجديدة، العام التاسع والخمسين من عمر دولة «إسرائيل». ومعها نواجه تحديات خطيرة تتعلق بالأوضاع السياسية وبالسلام والأمن لـ «إسرائيل»، ولذلك فإن التزامنا بتنفيذ خطة الانطواء وفرض الحدود من جانبنا، هو جبل النجاة لبقاء «إسرائيل» قوية ولاستمرار الصهيونية».

والحقيقة أن نظرية الانطواء، أي فرض «إسرائيل للحدود التي تراها هي، ومن جانب واحد، من دون النظر إلى الجانب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، ومن دون الاعتبار إلى التزامات «السلام واتفاقاته» من اوسلوا إلى خريطة الطريق وتفاهمات شرم الشيخ، ليست اختراعاً جديداً من عبقريات أولمرت، لكنها جاءت بالاسم الجديد، استكمالاً لمشروع ارييل شارون القديم، الذي بدأه قبل أربع سنوات، حين بدأ في بناء «الجدار العازل» مفتِّتاً الأرض الفلسطينية إلى شرائح كانتونات مبعثرة، لا تصلح أساساً لقيام دولة فلسطينية مستقرة...

وطبقاً للتصريحات الإسرائيلية الرسمية، تم بناء 42 في المئة من الجدار العازل في الضفة الغربية، إذ انتهى انجاز بناء 326 كيلومتراً، من مجموع طوله الأصلي والمستهدف البالغ 790 كيلومتراً، وبالتالي تنوي حكومة أولمرت استكمال الجزء الباقي خلال عام على الأكثر، ليصبح هو خط الحدود الجديد لـ «إسرائيل»، والتي تضم الكتل الاستيطانية الكبرى، ومن ثم لا تترك للفلسطينيين إلا نحو 40 في المئة من الضفة الغربية، مقسمة مبعثرة مشتتة!!

ويسعى أولمرت خلال زيارته الحالية لواشنطن، إلى تحقيق عدة مكاسب، وضمانات أميركية محددة، أهمها طبعاً تأكيد التحالف الاستراتيجي التاريخي بين الدولتين، ثم الحصول على الموافقة الأميركية على «خطة الانطواء» ورسم الحدود من جانب واحد، بحجة غياب الشريك الفلسطيني، وخصوصاً في ظل وجود حكومة «حماس» الفلسطينية، وأخيراً وليس آخراً، التأكيد للقادة الأميركيين على أن مشروعه السياسي، هو البديل الحقيقي لكل أوهام التسويات السياسية، بما في ذلك المشروع الأميركي المعروف باسم خريطة الطريق!!

ومثلما يسعى أولمرت إلى ضمان التمويل الأميركي لخطة الانطواء، وإعادة إحياء «الجيتو اليهودي التاريخي»، فإنه يسعى إلى قطع الطريق على أي جهود عربية، مطروحة أو يمكن أن تطرح، لعرقلة خطته ومشروعه السياسي، أو لفك الحصار الحديد غير الإنساني المفروض على الفلسطينيين الآن، من جانب الجميع، ناهيك عن محاولة إحياء التسويات السياسية العادلة والشاملة، تلك التي أصبحت من مخلفات الماضي غير المذكور، بل المتكرر!

باختصار، أولمرت ذهب إلى أميركا، وسبقته أجندته المحددة ومشروعه وخطته، هادفاً إلى تحقيق أفضل المكاسب وأقوى الضمانات، وحتماً سيحصل على ما يريد، من حجته هذه الأولى إلى البيت الأبيض، وهذا هو الفرق بين سياسي يحج إلى واشنطن ليصيب هدفاً ويحصل على مكسب، وآخر يحج لأخذ البركة والتناول، أو للاستماع إلى النصائح والتحذيرات وقرص الأذن!!!

وأظن أن هذا الفرق، هو التحدي الحقيقي المطروح علينا... لتغيير أوضاعنا على الأقل من البداية إلى النهاية.

خير الكلام: يقول ابن المقفع:

الملك ليس هو الملك،

البلاط هو الملك

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1356 - الثلثاء 23 مايو 2006م الموافق 24 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً