العدد 1354 - الأحد 21 مايو 2006م الموافق 22 ربيع الثاني 1427هـ

العدالة ومجتمعات الأطراف

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

العدالة محلها السماء، أما في الأرض وبين بني البشر فالعدالة غائبة ومنسية. نعم هناك محاولات لإقامة العدالة على وجه المعمورة، لكنها محاولات لعدالة نسبية في أرقى صورها وتمثلاتها، ولا تصل إلى حد الإطلاق كما هي عدالة السماء. وهذه العدالة النسبية ضعيفة ومنهكة، أصابتها الإخفاقات الكثيرة بأضرار بالغة وقللت من قيمتها وحجمها على أرض الواقع، فالكثير من البشر يتهربون من العدالة إذا تحركت في الخط المضاد لمصالحهم والمؤثر على مكانتهم، ويمارسون التأثير على مسار العدالة بإعمال رغباتهم ونزعاتهم الفردية والجماعية في غالبية المنعطفات والتحولات والظروف الطارئة والحرجة.

العدالة المضطهدة والمغلوبة على أمرها أنتجت وفاقمت مشكلة المجتمعات الطرفية التي لا يخلو منها بلد على امتداد العالم بأسره، لكن حدة المشكلة أعمق في عالمنا العربي والإسلامي، لانعدام عشرات المنظومات القائمة على حماية الحقوق، وترسيخ مبدأ المواطنة.

بدءاً لست أقصد بالمجتمعات الطرفية هنا تلك المجتمعات البعيدة جغرافيا عن المركز فحسب، وإن كانت مشمولة بما أعنيه في بعض الظروف والدول، بل قصدت مجتمعات الأطراف البعيدة عن المعادلة والإمكانات والقدرات لأي سبب كان. لقد حركت الاطروحات التي عرضها المشاركون في المؤتمر الذي أقامته جامعة جرش الأهلية في الأردن تحت عنوان: «القانون الجنائي الدولي الواقع والتحديات» في 9 -11 الجاري الكثير من الشجون والآهات بشأن العدالة المظلومة والإنصاف الضائع والمساواة الكاذبة في تطبيق القرارات الدولية التي تجيد الاقتصاص والتنكيل بالضعيف فحسب، في حين يبقى القوي يشرّع ويقنّن ويجبر الآخرين على القبول والتصديق والتصفيق له وإلا...!

استرسلت أتساءل على هامش المؤتمر وفي الجلسات الثنائية من بعض دكاترة القانون وعلمائه الذين قدموا أوراقهم، عن بعض القوانين العامة (والمواد المشرعة مدنياً) التي تبدو في واقعها سليمة وحامية للدول من جور بعضها على بعض، وللشعوب التي تقطنها من أي خطر داهم قد يغشاها وينغص عيشها، فتفاجأت بتأكيدهم جميعاً أن كل المكتوب ما هو إلا قوانين صيغت ودونت للدول الضعيفة فقط، بغية أن تبقى تحت حد السيف، لكن لا أحد يجرؤ على محاكمة أميركي أو بريطاني أو من ماثلهما. القوانين خطوة طيبة لكنها ليست العدالة ولا تضمن تحقيق العدالة دائما، لأنها قابلة للتطويع والعجن من جهة الأقوياء، كما أن الأيام تحدثنا عن تغاضيها وإعفائها لأمراء الحرب وكبار مروجيها من المحاسبة والمساءلة. وبالمناسبة كنت أقرأ ما نشرته صحيفة «عكاظ» السعودية بتاريخ 8 مايو الجاري وهو حديث نقلته على لسان جميع من شارك في اثنينية الإنسان الوجيه عبد المقصود خوجة تكريما واحتفاء بالشيخ حسن الصفار، إذ تناولوا «مقررات مؤتمر مكة المكرمة المنعقد ما بين 5 - 6/ 11/ 1426هـ وقالوا إن اعتراف قادة 57 دولة إسلامية بالمذاهب الثمانية يجسد طبيعة مرحلة مثيرة للتفاؤل في حياة الأمة الإسلامية، وإن إعلان مكة يمثل نقطة انطلاق مهمة في هذا الاتجاه، لكن الاهم من ذلك هو تنفيذ ما تم الاتفاق عليه وتأصيله بتبني صيغة قانونية ملزمة لجميع الدول الأعضاء بتفعيل هذا القرار المهم الذي إن طبق فانه سيوفر أرضية مشتركة ليس فقط للتفكير الصحيح الذي تحتاجه الأمة، وإنما للتطبيق والممارسة التي ستزيل الكثير من معوقات التقارب».

وفي اعتقادي أن المشاركين في الاثنينية، أجادوا الطلب والعرض سعياً وراء قوننة مقررات مؤتمر مكة، لكنهم قبل غيرهم يعلمون أن القرارات على مستوى منظمة مؤتمر العالم الإسلامي تحتاج إلى إنعاش، وعلى مستوى جامعة الدول العربية تحتاج إلى قبر يحوي رمامها، ولن تكون القرارات الأخرى أكثر إلزاماً من المستويين السابقين.

الدين كله عدالة كما نعتقد، لا يراودنا في ذلك شك، ولا يداخلنا ريب، لكن هل التدين كله عدل وعدالة؟ هذا ما ينبغي التوقف عنده مليا، لأننا نشهد يوميا متدينين ينتحرون ويفجرون أنفسهم بمسلمين ومتدينين ظلماً وعدوانا وبغيا، وتطالعنا الأخبار عن عمليات إجرامية باسم الجهاد تزهق منها أرواح العشرات من الأبرياء المصلين، وقرأنا في سنوات مضت كيف كان أهل الجهاد المصريين يفتحون أسلحتهم الرشاشة على صدور السياح الأجانب وهم ببرود قلب يكبرون الله ويؤلهونه، ويحتسبون عملهم عنده.

التدين وهو الممارسة الفعلية والعملية لما وصل إليه الإنسان من فهم للدين، ليس كله عدالة، بل ربما يكون تدينا (وليسمح لي أن استعبر هذا التعبير) مصلحياً كاذباً مراوغاً، وغطاء للكثير من الممارسات الدكتاتورية والإجرامية المضادة للدين، والدول التي تحكم باسم الدين لم تصل إلى حد الكمال المطلق، ولا العدالة المطلقة، بل مازال فيها ما يحتاج إلى التقويم والإصلاح والتعديل، وذلك لا يعيبها لأنه طبع البشر الناقص والساعي إلى الكمال.

سبق ان قلت في مطلع الموضوع أن العدالة في الأرض نسبية، وأن القوانين قد لا تحقق العدالة ولا تحميها، وإن كان وجودها خيراً من عدمها، كما أشرت للتو أن التدين كحال من حالات فهم الدين ليس بالضرورة قادراً على تحقيق العدالة، بل ربما ينكل هذا الفهم بكل فهم مخالف له.

وعلى ما سبق فإن المجتمعات الطرفية لن تكون محمية لا بواسطة القانون ولا من جهة التدين والحديث باسم الدين، ولن نحميها الخطابات التطمينية العامة التي تصلها بين الفينة والأخرى من رأس الهرم ومالك القرار أو غيره من المتنفذين المحبين للإنسان والوطن.

إنني أتصور أن أقرب الحالات لتحقق العدالة في أرقى صورها الممكنة وليست المطلقة هي حين يكون هناك تعادل وتوازن في القوى والقدرات والإمكانات بين بني البشر أفراداً كانوا أم جماعات. حينذاك سيفرض التوازن حالاً من الاحترام المتبادل، والعدالة الضرورية، ولا اسميها الاضطرارية، التي تدعو كل دولة وكل مجتمع وجماعة للتفكير في مصالحها مليا قبل أن ترتكب حماقة التعدي والعدوان على المجتمعات الأقل والأضعف والأطرف.

على هامش المقال... أيحق لي أن أفهم التخصيب الإيراني لليورانيوم على انه محاولة جادة لإيجاد بعض التوازن والقدرة مقابل الدول القاهرة التي تمانعه لتبقى قادرة على الظلم والطغيان دون رادع؟وهل يحق لي أن زعتبر التخصيب بداية مهمة لإعلان عزتنا وكرامتنا بين شعوب الأرض ومجتمعاتها؟

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 1354 - الأحد 21 مايو 2006م الموافق 22 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً