إذا ما اتفقنا من حيث المبدأ على تعريف الديمقراطية، باستعراض واستعادة مفرداتها الأساسية المكونة لها... بأنها الجدل الديالكتيكي المؤسس والمبني على الواقع الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ذلك المرتكز في منشئه وانبعاثه على الكثير من أقوال الله جلّ جلاله وعلا شأنه وانبثق كماله، تجلت وحدانيته وانفردت في توضيح ذاته في قوله: «الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس» (النور: 35).
هذ الصفات المتميزة لجلالته، والمتوحدة في ذاته العلية من دون مشارك له فيها.
وهل يمكن الاختلاف، بأن هذه الصفات القدسية التي اتصف بها الخالق العظيم أن تنعكس بقدسيتها على مفردات أقواله المؤسسة للديمقراطية، مثل محاورة الملائكة له في شأن خلق آدم في قوله لهم: «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلّم آدمَ الأسماءَ كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين» (البقرة: 30 - 39).
فإذا ما وقفنا بكل إجلال واحترام أمام هذا الحوار العظيم المؤدب انطلاقاً من منازله العليا ومراتبه القدسية كحوار دار بين الجلالة وملائكته من ناحية، ولكونه في ظل اتفاقنا من حيث المبدأ بأنه منشأ الديمقراطية، وأنه من حيث منشئه قد اصطبغ بالقدسية، وأيضاً فإننا لا يمكن أن نتنكر لكل ما يتطور عنه ويخرج منه يكتسب القدسية ذاتها، فإنه لا مفر من أن الديمقراطية ناتجة عن تلك المفردات في مسار تطور الخلق عبر مراحل التاريخ، فإنه لمن الكفر والتنكر، وصف الديمقراطية بأنها «غربية كافرة أو شرقية ملحدة»، فإذا اتفقنا من حيث المبدأ على تعريف الديمقراطية بأنها الجدل الديالكتيكي المرتبط أساسه بقول الله في أمره لنبيه الكريم محمد (ص): «ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم» (فصلت: 34). ولكننا نفهم من المجادلة عن طريق الحس والشعور، بأنها حال تقع بين رأيين مختلفين في تفسير وتثبيت واقعة مختلف بشأنها وليست حال كيد طرف ونصبه ضد طرف آخر بقصد الإيقاع به والتنفيس عن حقد دفين؟
ولعلنا نكون وفيما أمر الله نبيه محمد (ص): «وجادلهم بالتي هي أحسن...» نكون قد لامسنا مفردة هي من أهم المفردات المؤسسة للديمقراطية، وأهم مؤشر لأرقى علم هدى الله الإنسان إليه، وبيّنه في قوله: «علّم الإنسان ما لم يعلم» (العلق: 5)... ألا وهو «الجدل الديالكتيكي»، ومفهوم «الديالكتيك» بأنه «التعاليم الأشمل والأعمق عن التطور، وهي على الضد من الميتافيزيك الذي يبحث ظواهر الواقع باعتبارها في حال سكون ومنفصلة عن بعضها بعضاً».
«إن الشكل التاريخي الأول للتفكير الديالكتيكي، الذي انبثق عن محاولات الإنسان لتفسير المفردات الإلهية المكونة للديمقراطية، رسى ليطرح نموذجاً من الديالكتيك العفوي لفلاسفة العالم القديم (الصين، الهند، اليونان، وروما)، وانبثقت التعاليم الفلسفية في ذلك العصر من الإحساس بالترابط المتبادل الشامل بين الأشياء، وفي حركة الطبيعة وتبدلها، والإحساس بالتناقض الداخلي في الحياة والبحث عن مفاهيم مرنة قادرة على أن تعكس تعقد العمليات الطبيعية». (راجع القاموس السياسي/ عبدالرزاق الصافي - الطبعة الثالثة ص 153 - 152).
ولكيلا نخرج بعد الذي اقتبسناه من علوم أرساها الله، أسرار الطبيعة ودعا خلقه إلى اكتشافها والاستفادة منها، في هذا المسار يمكننا أن نقف عند موضوعين، ونحن نسعى إلى ربط المفردات الإلهية، ونخضعها خضوعاً علمياً لا يتطرق الشك إليه لتأكيد إلهية الديمقراطية وانتشالها من مفاهيم السذج الذين يربطون نشوءها بالغرب الكافر أو الشرق الملحد بحسب توصيفهم، وما هم بهذا التوصيف السقيم إلا أنهم يبخسون ويتنكرون لنعم الجلالة على الإسلام والمسلمين ويعطونها لأعداء الله.
وعودة إلى تثبيت وتحديد موضوعينا، وهما:
أ - الترابط الشامل بين الأشياء في حركة الطبيعة وتبدلها.
ب - الإحساس بالتناقض الداخلي في الحياة والبحث.
عن هذين المفهومين نضرب مثلاً، نختصر في ظله وفعله في محاولة لإرساء ذينك الموضوعين على أرضية الواقع وتجسدهما بصورة عملية لنظر الإنسان، في هذا الصدد نأخذ من دولاب السيارة أو أي متحرك ميكانيكي يدبّ على سطح هذا الكون مدخلاً لمثلنا، فلو وضعنا قطر الدولاب وهو في حال سكون في وضع عمودي وأشرنا بنقطة عند طرفه العلوي ونقطة أخرى عند طرفه السفلي الملامس للأرض، ودوّرنا الدولاب بمقدار 45 درجة بحيث يرسم ربع دائرة منطلقة من اليسار إلى اليمين ويسجل نصف قطر يشير في اتجاه اليمين وانه تأكيداً لـ (أ) وتثبيتاً للترابط الشامل بين الأشياء في الطبيعة وتبدلها. وتحقيقاً لـ (ب) والتفاعل مع الإحساس بالتناقض الداخلي في الحياة والبحث... فإن النقطة المثبتة عند طرف القطر السفلي ستتحرك أيضاً 45 درجة في اتجاه معاكس لمسار النقطة العليا على محيط الدولاب، نحو اليسار في تناقض واضح مع النقطة العلوية التي تتحرك من اليمين إلى اليسار ولكنهما لا ينفيان بعضهما بعضاً لأنهما يسيران في اتجاه واحد هو حركة عقارب الساعة... من ذلك نستخلص أن حركة السيارة لا تعتمد على نصف قطر الدولاب السفلي بل على حركة الدولاب في نصفه العلوي لأن نصف الدولاب السفلي يتحرك إلى الوراء بينما السيارة تسير إلى الأمام. هذه واحدة، والاستخلاص الثاني أن سرعة السيارة تساوي نصف سرعة الدولاب.
وفي دفاعنا عن الديمقراطية كنتاج للمفردات الإلهية، سيظل الصراع قائماً حتى يتحقق الحق وينزهق الباطل، وسنظل خط دفاع أول عن الديمقراطية حتى نحققها كقبس إلهي وندافع من منطلقاته كأمة إسلامية في الأساس ولنا حق الاختلاف
إقرأ أيضا لـ "محمد جابر الصباح"العدد 1352 - الجمعة 19 مايو 2006م الموافق 20 ربيع الثاني 1427هـ