تتمتع كل حضارة بفلسفة وأدوات عملية لتمثيل ذاتها والتعبير عن أفكارها وأعمالها وأفعالها. فحضارة الاغريق كانت قائمة على العقل وأدواتها العملية هي الفلسفة والمنطق. أما روح حضارة الرومان فكان القانون وآلياته العملية البرلمان (السنت). فلسفة حضارة الغرب الحديث - الحركة أو العمل - وأداتاها الاساسيتان العلم والتكنولوجيا. فلسفة حضارة المسلمين النص وأداتها العملية اللغة.
فالنص القرآني (المقدس) هو مركز حضارة المسلمين وكيفية التفاعل معه تاريخياً في فهمه واستيعاب مضامينه هو الذي أنتج ما وصلت اليه اليوم حضارة المسلمين من ركود. فأصبح هناك تراث في افراغ النص من محتواه وعدم القدرة على تجدد تأويله أو وجود الأطر اللازمة لاعطاء النص المساحة الضرورية عند قراءته وعدم جعلها جامدة غير فاعلة مستبدة تستمد شرعيتها من الاستبداد السياسي والاجتماعي وتقليديتهما.
فقراءة النص أو فهمه بقيت جامدة طوال القرون الماضية وقائمة أحياناً على القراءة الحرفية وأحياناً أخرى باستعمال أدوات قديمة كالقياس. فكان قياس شاهد حديث على غائب قديم بالعوامل نفسها مع اختلاف الظروف المحيطة به، أي ان المتغيرات المحيطة بالنص في الشاهد الحديث هي ليست ذاتها تلك المحيطة بالكائن القديم. وما حدث هو اعادة انتاج الحادثة وليس ما حولها. وهذا ما جعل العقل العربي والاسلامي، عموماً، أسير عملية القياس في مراحل التاريخ المتغيرة.
يروى أن أحدهم روى أمام أبي حنيفة النعمان حديثاً نبوياً نصه «البيعان بالخيار ما لم يفترقا»، بمعنى البائع والمشتري لهما الحق، لأحدهما أو لكليهما، في التراجع عن الصفقة اذا ما برحا مكان عقد الصفقة. فقال أبو حنيفة: أرأيت ان كانا في سجن؟ أرأيت ان كانا في سفر؟. أي البيعان ليسا بالضرورة بالخيار ما لم يفترقا. بمعنى ان أبا حنيفة، وهو الامام الأعظم لأهل السنة والجماعة، رفض الأخذ بحديث نبوي واضح وصريح وصحيح، وأخذ بالرأي. ولو لم يكن المفتي أبو حنيفة، وفي ذلك الزمان بالذات، فربما كفر.
وهذا كان ممكناً لأن أبا حنيفة جاء قبل الشافعي الذي قفل باب الاجتهاد ولم يعد عقل المسلم، وخصوصاً في الجوانب الفقهية والشرعية، حراً طليقاً في اطار المرجعية الاسلامية الشاملة. قفل باب الاجتهاد خلق منهجاً واحداً للوصول الى الحقيقة الشرعية ولأن عملية الغلق كانت ذات طابع سياسي فقد اعطاها بعداً ايديولوجيا على حساب القطيعة المعرفية، ما أدى، في نهاية المطاف، الى طغيان البعد الأحادي على الأبعاد المتعددة في المنهجية والتصورات والروئ.
ايقاف العقل الفقهي وغياب العقل النقدي أدى عملياً الى دوران النص حول الفاعلية الانسانية، فالانسان عملياً ونظرياً واقف بسبب ثبات الروئ والتصورات والتقيد حرفياً عند قراءته للنص. وبما ان النص الالهي والمقدس هو مركز حضارة المسلم فان دوران النص حول الانسان يمثل دائرية الحركة والعمل. وتوجد اضافة لدائرة مركزية النص الالهي المقدس دوائر أخرى صغيرة تمثل فاعلية الانسان المتجسدة بنتاجات المسلمين، كدائرة الفقه والشريعة ودائرة علم الكلام وغيرها التي يدور حولها النص المقدس (النص الالهي). وهذه الدوائر الصغيرة التي يدور حولها المركز تتقاطع بطبيعة عملها مع دائرة النص المقدس ما يجعلها أولاً قريبة من المركز، ثانياً: احداث الخلط والالتباس بين قدسية النص البشري واستنتاجاته ومعادلته للنص الالهي المقدس بسبب مناطق التقاطع بين هذه الدوائر والدائرة المركزية. وهذا ما يحدد تأثير ومساحة الدائرة الأساسية.
ويرى البعض ان محدودية الحضارة الاسلامية هو في حركتها الدائرية ومركزيتها القائمة على النص الالهي وليس كما هو في الغرب في حركته المستقيمة أو الاتجاهية الى الأمام (ْفمَىج) أو عند اليابانيين والغرب في الحركة الذيليلة (Exponential) كما في تطوير ذاكرات أشباه الموصلات Memories (فز في نهاية القرن الماضي).
والمفترض عمله هو دوران الفاعلية الاجتماعية حول النص، بشكل تجريدي، ما يعطي المجال عملياً لتوسيع مساحة التأثير وكبر قطر دائرة الحركة المركزية نتيجة زيادة فعالية الدوائر الأخرى (انتاجات البشر، دراسة حركة الانسان (علم النفس والاجتماع)، تجديد الفقه...الخ) ودورانها حول دائرة النص المقدس، واعطاء الأطر الضرورية للنصوص وتفاعلها مع الانسان من خلال القراءات المتجددة للتغيرات الحاصلة. تقاطع دوائر نصوص البشر يتم على مسافات أبعد عن المركز ما يعطي المركز قدسيته النصية ومكان الانسان من قراءة نصوصه وأعماله كانتاجات بشرية. ويضمن عدم الخلط أو الالتباس بين الاثنين. والاهم ربما تنامي الحركة الاشعاعية لكبر قطر الدائرة المركزية (وتناغمها مع الدوائر البشرية) في التعامل مع التحديات والتغيرات الحاصلة في المجتمع، ويجعل هذه الحركة قادرة على انتاجات ونمو كتلك في الحركة المستقيمة أو الذيلية
العدد 1351 - الخميس 18 مايو 2006م الموافق 19 ربيع الثاني 1427هـ